في كل موسم من مواسم الطاعة، يعود الهجوم الموسمي على المملكة العربية السعودية، وكأن الأمر طقسٌ إعلامي ينتهجه اعداء النجاح والمتربصين الذين فشلوا مرارا وتكرارا في تنظيم مباراة كرة قدم بلا أخطاء. فالمملكة ليست مجرد دولة تقف على أطراف الساحة الفلكية، بل هي اليوم تقود بامتياز واحدة من أكثر العمليات تنظيماً على مستوى العالم الإسلامي في ما يخص تحري الهلال. إنها الدولة التي تمتلك مراصد فلكية مجهزة بتقنيات متقدمة، يديرها فريق من المتخصصين في علم الفلك الإسلامي، بالتوازي مع لجان شرعية تتبع أدق التفاصيل الفقهية. وإذا كانت بعض الدول تعتمد على الحساب الفلكي فقط، فإن السعودية تجمع بين الرؤية البصرية المؤيدة بالحساب العلمي، لتصنع بذلك معادلة نادرة من التوازن بين الإيمان والعقل. الانتقادات التي تطال المملكة ليست جديدة، بل تُبنى في الغالب على جهل بالإجراءات المتبعة، أو انحيازات أيديولوجية تحاول استهداف أي حضور سعودي في ملف ديني حساس، من يهاجم السعودية في هذا السياق، نادراً ما يعرف أن تحديد بداية الأشهر القمرية فيها لا يتم بقرار فردي، بل عبر منظومة مؤسسية تبدأ من المحكمة العليا، مروراً بالمراصد التابعة لجامعات رسمية، وصولاً إلى مشاركة المتطوعين من مختلف المناطق. كل هذا يتم بشكل معلن، ويدعو عموم المسلمين داخل المملكة للمشاركة في التحري، مما يعكس شفافية نادرة قلّما توجد في قرارات دينية من هذا النوع. من الناحية العلمية، فإن مسألة رؤية الهلال لا تخلو من التعقيد. الهلال الجديد لا يُرى عادة في أول ليلة فلكية له إلا بشروط دقيقة تتعلق بارتفاعه عن الأفق وزاويته بالنسبة للشمس وزمن مكوثه بعد الغروب. قد يكون الهلال مولوداً من الناحية الفلكية، لكن لا يمكن رؤيته، وهنا يكمن جوهر التفاوت بين الدول. السعودية لا تكتفي بالحساب الفلكي المجرد، بل تعتمد على إمكانية الرؤية بالعين المجردة أو باستخدام التلسكوبات، وتُدخل شهادات الشهود ضمن مسار قانوني دقيق يمر بالمحاكم. هذه الآلية تُظهر الاحترام العميق لقيم الشريعة، مع فهم كامل لحدود العلم وتطبيقاته في مسائل دينية. المراصد السعودية في حوطة سدير وتمير، وغيرهما، لم تعد مجرد أدوات رصد، بل باتت منارات للدقة والانضباط. علماء الفلك في السعودية ليسوا بمنأى عن التحديات العلمية الحديثة، بل هم شركاء فاعلون في الحوارات الفقهية الدائرة حول توحيد الرؤية، الفرق بين الحساب والرؤية، وحدود الإلزام الديني بكل منهما. وفي ظل هذا التفاعل بين العقل والدين، تقف المملكة بجدارة في صفوف الدول الرائدة، لا فقط في تحديد الأهلة، بل في صناعة خطاب ديني عقلاني يستند إلى إرث فقهي متين دون أن يُغفل التطور العلمي. ختاماً، المملكة العربية السعودية باتت في موقع المتصدر في هذا المجال. لكنها، كعادتها، لا تنشغل بالرد على كل صوت عابر، بل تواصل العمل بصمت ودقة، مدركة أن احترام الزمن القمري لا يكون بالضجيج، بل بالحكمة والبصيرة. ولعل الفرق بين من يُحدّد الهلال بالمرصاد ومن يترصده بالهجوم، هو أن الأول يصنع التقويم.. أما الثاني، فينتظر اللحظة ليقحم نفسه في زمن لا يملكه. @malarab1