فى زمن هرولت فيه الأضواء خلف اللمعة الزائفة، كان الراحل نور الشريف يمشى بتؤدة، يرسم طريقه بنفسه، كان يعرف أن الخلود لا يأتى مصادفة ولا تمنيا، بل يُصنع كما تُصنع التحف الكبرى، بنَفسٍ طويل وحب عميق.ولد نور الشريف (28 أبريل 1946 - 11 أغسطس 2015) ليكون مشروعًا فنيًا استثنائيًا منذ لحظة انطلاقه، لم يكن فقط ممثلًا، بل كان صانعًا لملامح الشخصيات من جذورها حتى حركتها العابرة، لم يكن يقبل أن يقف أمام الكاميرا إلا وهو قد نسج تاريخًا كاملاً لكل دور، ماضٍ خفي، إحساس دفين، منطق داخلي، ولزمة سلوكية تولد مع كل شخصية.لعل أبرز ما يميزه بين أبناء جيله هو هذا الشغف بالمذاكرة الدقيقة، تحدث كثيرًا فى لقاءاته عن كراسات الشخصيات التى يحتفظ بها، عن حركتها، مشيتها، نظرتها، خذ مثلاً حركته الشهيرة لحركة الرقبة عند "كمال" فى فيلم العار؛ حركة بسيطة لكنها مشبعة بدلالة اجتماعية عميقة، استلهمها من مراقبته لرجل ثرى ريفى ما زال جسمه يحنّ إلى بساطة الجلابية رغم ارتدائه البدلة. كان نور الشريف واعيًا بمكانته بين عمالقة جيله، لكنه لم يكن مغرورًا ولا مغلقًا على نفسه، أشاد مرارًا بأحمد زكى وعادل إمام، دون أن ينكر خصوصية موهبته قائلاً ببساطة: "بس أنا برضه نور الشريف"، كان ينافس، لكنه يحتفى بالآخرين أيضًا، كان يرى أن المنافسة الحقيقية تخلق فنا أفضل، لا عداوات فارغة.فى اختياراته الفنية، كان مغامرًا أصيلًا، قليلون فقط هم الذين تجرءوا على دخول منطقة الميتافيزيقا كما فعل نور الشريف فى أصدقاء الشيطان، حين قدّم "جلال الفتوة" الذى أراد قهر الموت ذاته، اختياراته لروايات نجيب محفوظ لم تكن دائمًا فى المسارات السهلة أو الشعبية؛ بل كان يبحث عن القصص الأكثر جرأة وغرابة.فى عام 1984، أنتج نور فيلم "آخر الرجال المحترمين" كواحد من الأعمال السينمائية التى حملت روحًا إنسانية عميقة ورسالة اجتماعية نقدية، لكن رحلته التجارية كانت محفوفة بالتحديات. قصة المعلم "فرجاني" الذى يتحمل مسؤولية البحث عن طفلة فُقدت خلال رحلة مدرسية إلى القاهرة، ليكتشف عبر رحلته تناقضات المجتمع وصراعاته، متوجهًا فى النهاية بجملة فلسفية تلخص رؤيته: "الإنسان هو الأصل فيه الخير، والشر دخيل عليه".رغم القيمة الفنية للفيلم ابتعد عنه الشباب المتلهف لأفلام الإثارة والجرأة التى تُواكب روح الثمانينيات، النتيجة كانت إقبالًا ضعيفًا على صالات السينما، ما أثمر خسارة مادية كبيرة، إلا أنه حظى بانتشار لافت فى أوروبا، فتم عرضه بشكل واسع على شاشات التليفزيون فى ألمانيا الغربية، التى اشترت حقوق بثه، كما انتشر فى الصين ودول أخرى، ليصير واحدًا من الأفلام المصرية القليلة التى نالت اهتمامًا غربيًّا فى تلك الحقبة، اعترف نور الشريف - كمنتج للفيلم - بأن الحملة الدعائية كانت أحد أسباب فشله تجاريًّا.لكن رغم مرور أربعة عقود على إنتاج "آخر الرجال المحترمين"، ظل الفيلم شاهدًا على إشكالية التعامل مع الأعمال ذات الطابع الإنسانى فى سوق يسودها الإنتاج الجماهيري، فالفن الحقيقى فى النهاية انتصر بقيمته الفكرية، حتى لو تأخر اعتراف الجمهور به. حتى فى أفلامه التجارية، لم يكن ينزلق نور إلى التنازل الكامل؛ بل كان يحاول دائمًا أن يحافظ على مستواه، وأن يفتح الأبواب أمام الجيل الجديد من المخرجين والكتاب.خارج الكاميرا، كان نور الشريف مثقفا حقيقيا، ليس قارئًا عابرًا، بل محللًا واعيًا لحركة التاريخ والفن، فى محاضراته بالكويت، المتاحة الآن على يوتيوب، تجد كيف كان يملك رؤية ثاقبة لمستقبل السينما، وتحولات المجتمع العربي، معظم الحضور، الذين أصبحوا لاحقًا من نجوم الكويت، ما زالوا يتحدثون عن التأثير العميق لكلماته، بشكل عام فى برامجه وحواراته لم يكن يحكى لمجرد الحكاية؛ كان يقرأ متغيرات العالم كما يقرأ الممثل الدور، بعين المفكر وعقل الناقد.نور لم يكن يسعى للخلود بالجوائز أو الأوسمة، كان يعرف أن البقاء الحقيقى هو فى وجدان الناس، اليوم، حين نستعيد مشهدًا له، أو نسمع صوته، نكتشف أن العشاق الحقيقيين لا يرحلون أبدًا، يبقون بيننا، فى تفاصيل حياتنا، فى الوميض الخفى داخل قلوبنا، رحم الله نور الشريف.. كان ولا يزال صنايعى الخلود.