أوروبا على مفترق طرق، لقد تجاوزنا ذروة التعاون الأمني عبر الأطلسي، فيما تنظر إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى معظم دولنا الأوروبية بمزيج من الازدراء والاستهزاء والعداء الصريح.
وعلى أقل تقدير، لم يعد قادة أوروبا يعتبرون الدعم والحماية الأميركية التقليدية متوافرة لهم بعد الآن. وعليهم أن يأملوا الأفضل، وأن يخططوا تحسباً للأسوأ، وهذا يعني رسم مسار مستقل في السياسة العالمية.
ليس هذا الوضع خطأ ترامب بالكامل، حتى لو لم يأت للبيت الأبيض، فإن إعادة التوازن الجذري للعلاقات عبر الأطلسي أصبحت أمراً ضرورياً منذ زمن طويل.
ونظرة سريعة على الكرة الأرضية تكشف ذلك، فالولايات المتحدة ليست قوة أوروبية، والالتزام العسكري الأميركي الدائم لأوروبا يُمثل شذوذاً تاريخياً وجيوسياسياً، ولا يمكن تبرير التزام باهظ الثمن من هذا النوع إلا في حالة الضرورة الاستراتيجية القصوى، مثل منع أي قوة منفردة من الهيمنة على المنطقة بأكملها.
وهذا الهدف الاستراتيجي هو السبب الرئيس في دخول الولايات المتحدة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسبب احتفاظها بقوات كبيرة في أوروبا خلال الحرب الباردة.
كانت هذه السياسات منطقية آنذاك، لكن الحرب الباردة انتهت منذ أكثر من 30 عاماً، وانتهت أيضاً مرحلة القطب الواحد منذ بضع سنوات.
الناحية المثالية
ومن الناحية المثالية، ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع أوروبا للتفاوض على تقسيم جديد للمهام، لكي يصبح هذا الانتقال سلساً وفعالاً قدر الإمكان. وستكون قمة «الناتو» المقبلة في يونيو فرصة مثالية لتسريع هذه العملية، خصوصاً إذا اختارت الولايات المتحدة القيام بدور بنّاء. لكن للأسف، لا تعتقد إدارة ترامب أن أوروبا شريك اقتصادي قيّم أو حليف استراتيجي مفيد، بل ترى أوروبا كمجموعة من الدول المتدهورة والمنقسمة والمتراجعة، الملتزمة بالقيم الليبرالية التي يرفضها ترامب والرافضة لحركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى».
ويشعر ترامب براحة أكبر مع بعض الزعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أكثر من ارتياحه للسياسيين الأوروبيين، كما أن إدارته أكثر تعاطفاً مع جماعات اليمين المتطرف، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا أو التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان في فرنسا.
وأيد ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويعتقد أن الاتحاد الأوروبي شُكّل بهدف «إزعاج الولايات المتحدة»، ويفضل التعامل مع دول أوروبية فردية بدلاً من التعامل مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين يمثلون أوروبا ككل.
ويرفض ترامب الأعراف أو القواعد التي قد تتعارض مع أحلامه مثل ضم غرينلاند أو ضم كندا إلى الولايات المتحدة. وباستهداف حربه الجمركية القارة العجوز، فإنه يُصعّب على أوروبا تحقيق أهداف الإنفاق الدفاعي التي يفرضها عليها.
حماية المصالح
يبدو هذا مُقلقاً من منظور أوروبي، لكن على قادة أوروبا أيضاً أن يتصالحوا مع عجز إدارة ترامب المتأصل، حيث تُعتبر الحرب التجارية الفوضوية أوضح مثال على ذلك، كما يجب ألا ننسى المسؤولين غير المؤهلين الذين عينهم ترامب، فضلاً عن فضيحة «سيغنال جيت» المُحرجة، والهجمات المُستمرة على المؤسسات العلمية والجامعات، والمفاوضات غير الاحترافية مع روسيا وإيران، والفوضى المُتكررة الصادرة من مكتب وزير الدفاع.
فإذا اعتقد القادة الأوروبيون أن الأميركيين يعرفون ما يفعلون، فعليهم في هذه الحالة أن يعيدوا النظر في ما يعتقدون.
وإزاء هذا الوضع على الأوروبيين أولاً الابتعاد عن الخلاف مع الولايات المتحدة، وإبداء الاستعداد للتفاوض على ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة بروح تعاونية. لكن إذا أصرت واشنطن على افتعال المشكلات معهم، فعليهم الاستعداد للتضحية لحماية مصالح أوروبا.
ثانياً، إذا اضطر الأوروبيون لمواجهة إدارة أميركية غير ودية، فمن الأفضل أن يتحدثوا بصوت واحد ويقاوموا مساعي الولايات المتحدة لتفريقهم. وينبغي على أوروبا تنفيذ معظم الإصلاحات الاقتصادية الموصى بها في تقرير قدمه الاقتصادي ماريو دراغي في بروكسل، حول مستقبل القدرة التنافسية الأوروبية، حيث استعرض صورة اقتصاد الاتحاد الأوروبي، كما ينبغي إلغاء حق النقض الذي يسمح للدول الأعضاء عرقلة الإجراءات الضرورية لصالح القارة. وإذا دفع هذا الإلغاء دولاً معارضة مثل المجر إلى الانسحاب من الاتحاد، فقد يكون ذلك من الأفضل للدول المتبقية.
بناء القدرات
ثالثًا، الأمر لا يتعلق بزيادة ميزانيات الدفاع (مع أن بعض الدول الأوروبية بحاجة إلى إنفاق المزيد)، بل يتعلق بإنفاق اليورو بفاعلية وبناء قدرات ميدانية مستدامة لا تعتمد على الكثير من المساعدة الأميركية. ويُعد هدف وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس المتمثل في «أربع ثلاثينات» (30 كتيبة، 30 سرباً جوياً، 30 سفينة، جاهزة خلال 30 يوماً) نقطة انطلاق جيدة، لكن أي قوة عسكرية أوروبية موثوقة لا تعتمد على الكثير من المساعدة الأميركية ستتطلب أكثر من ذلك.
وكما حذر أستاذ العلوم السياسية في برنامج الدراسات الأمنية بمعهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا»، باري بوسن أخيراً، يجب على أوروبا تجنب الانجرار إلى دور حفظ سلام مكلف في أوكرانيا ما بعد الحرب، والتركيز بدلاً من ذلك على تطوير قدرة قوية للأسلحة المشتركة يمكنها التدخل حيثما دعت الحاجة.
رابعًا، نظراً لأن المظلة النووية الأميركية تبدو غير موثوقة بشكل متزايد، فقد حان الوقت للأوروبيين لإجراء نقاش جاد ومستدام حول دور الأسلحة النووية في الأمن الإقليمي. وكيفية استجابة الأوروبيين لذلك متروكة لهم بالطبع، لكن لا يمكنهم تجاهله بعد الآن.
برأيي الشخصي، لا يتطلب الردع الأوروبي الموثوق مواكبة الترسانات الأميركية أو الروسية، لأن هدفه الأساسي هو ردع أي هجوم واسع النطاق على استقلال الدول الأوروبية الرئيسة، وكل ما يتطلبه ذلك هو قدرة فعّالة على الرد. والخبر السار هو أن المسؤولين الأوروبيين والخبراء الاستراتيجيين بدأوا بمناقشة هذه القضايا، وهو أمرٌ إيجابي.
خيارات أوروبية
خامساً على الدول الأوروبية تذكير واشنطن بأن لديها خيارات، إذا استمرت في عدائها أو عدم موثوقيتها، وأنها ستعمل مع الآخرين - بما في ذلك الصين - على الرغم من أن للاتحاد الأوروبي مخاوفه الخاصة بشأن التجارة مع الصين، إلا أن الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع بكين، وربما توسيعها، قد يكون ضرورياً إذا أصر ترامب على رفع حواجز التعريفات الجمركية.
لطالما اتبعت الدول الأوروبية نهج الولايات المتحدة في حظر تصدير جوانب حيوية من التكنولوجيا المتقدمة، حتى لو تطلب ذلك تكاليف باهظة. على سبيل المثال، اتبعت هولندا نهج إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، في منعها شركة «إيه إس إم إل» (وهي شركة هولندية) من بيع آلات الطباعة المتقدمة إلى الصين، وقرر عدد من دول الاتحاد الأوروبي حظر تقنية هواوي للجيل الخامس على الرغم من أنها أرخص وأفضل من البدائل. فإذا أصرت إدارة ترامب على التعامل بحزم مع أوروبا في قضايا أخرى، فسيكون على أوروبا أن تمتنع عن اتباع مثل هذا النهج في المستقبل.
أخيراً على المدى البعيد ينبغي على الدول الأوروبية استكشاف سبل تخفيف التوتر مع روسيا. لن يكون هذا سهلاً، خصوصاً إذا كان بوتين لايزال يحكم روسيا، لكن الوضع الراهن المتمثل في الشك المتبادل العميق والمواجهة والاضطرابات لن يصب في مصلحة أوروبا.
ومع تزايد قوتها العسكرية وتحسن أمنها، ينبغي على الدول الأوروبية أن تظل منفتحة على تدابير بناء الثقة التي تهدف إلى معالجة المخاوف الأمنية المشروعة لكل جانب. وتُذكرنا المبادرات السابقة، مثل عملية هلسنكي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بأن الانفراج ممكن حتى بين المتنافسين، وينبغي على القادة الأوروبيين المستقبليين أن يظلوا منفتحين على هذا الاحتمال.
إستيفن إم والت*
*كاتب عمود ومحلل في «الفورين بوليسي»
عن «الفورين بوليسي»
منافس قوي
تُعدّ الصين الآن المنافس الرئيس لأميركا كقوة عظمى، وقوة إقليمية مهيمنة محتملة، وتحتاج الولايات المتحدة إلى تركيز مواردها وطاقاتها المحدودة على منع الهيمنة الصينية في آسيا. والخبر السار هو أنه لا توجد دولة قوية بما يكفي للهيمنة على أوروبا اليوم - ولا حتى روسيا - ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى تحمل هذا العبء. ويبلغ عدد سكان أوروبا أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا، ويعادل ناتجها المحلي الإجمالي تسعة أضعاف ناتج روسيا، كما أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» تنفق أكثر من إنفاق روسيا على الدفاع، على الرغم من أنها لا تنفق هذه الأموال بكفاءة عالية. ولو تم حشد قوتها الكامنة الأكبر كما ينبغي، لاستطاعت أوروبا ردع أو هزيمة أي تحدٍّ روسي مباشر دون مساعدة مباشرة كبيرة من «العم سام».
. إدارة ترامب لا تعتقد أن أوروبا شريك اقتصادي قيّم أو حليف استراتيجي مفيد، بل تراها مجموعة من الدول المتدهورة والمنقسمة والمتراجعة.
. يجب على الأوروبيين الابتعاد عن الخلاف مع أميركا، وإبداء الاستعداد للتفاوض على ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة وبناء قدرات عسكرية.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الامارات اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الامارات اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.