بمناسبة اليوم العالمي لطب الأسرة واليوم العالمي للموارد البشرية، تتقاطع قضيتان محوريتان لا يمكن فصلهما عن واقع الرعاية الصحية: الأولى تتعلق بمقدم الخدمة في الخطوط الأمامية، الذي يتحمل عبء المسؤولية المباشرة عن سلامة المرضى وجودة تجربتهم، والثانية تتعلق ببيئة العمل العادلة، التي ينبغي أن تُمكّن لا أن تُرهق. وعند هذه النقطة بالتحديد، تبرز واحدة من أكثر الظواهر صمتًا وتأثيرًا في آنٍ معًا: «الطب الدفاعي».
خلال الأعوام الماضية، صعد مؤشر «رضا المريض» ليحتل موقعًا مركزيًا في تقييم الأداء الصحي، حتى بات في بعض المؤسسات هو المؤشر الأهم، وربما الأوحد. هذا التوجه، وإن كان في جوهره إنسانيًا ويستند إلى قيمة احترام المريض وتمكينه، إلا أنه عندما يُطبّق دون موازنة مع الاعتبارات المهنية والعلمية، يتحوّل إلى سلاح ذي حدين. في واقع كثير من الممارسين الصحيين، أصبح رضا المريض يرتبط غالبًا بتلبية مطالبه، لا بتحقيق مخرجات صحية حقيقية، مما دفع بعض الأطباء إلى اتباع نمط «الطب الدفاعي»، الذي لا يُبنى على قناعة علاجية، بل على تجنّب الخطر الإداري أو القانوني.
الطبيب الذي يخشى اللوم أو المساءلة قد يلجأ إلى طلب فحوصات لا يرى ضرورتها، أو يحيل الحالات إلى مستويات أعلى من الرعاية دون مبرر طبي، أو يمنح إجازات مرضية تحت ضغط اجتماعي أو وظيفي لا علاقة له بالحالة السريرية. يصبح “تفادي الشكوى” هو المحرك الأول، لا “تحقيق الشفاء”. وهنا، لا نخسر فقط جودة الخدمة، بل نخسر الثقة في علاقة الطبيب بمريضه، ونُحمّل النظام أعباءً مالية وبشرية لا مبرر لها.
دراسات عالمية أظهرت أرقامًا صادمة حول هذه الظاهرة. ففي الولايات المتحدة، قدّر الإنفاق على الطب الدفاعي بما يتراوح بين 46 إلى 300 مليار دولار سنويًا، أي نحو 3% من إجمالي الإنفاق الصحي.
ولا يقتصر الأثر السلبي على الهدر المالي، بل يمتد إلى جوهر العلاقة العلاجية. حين يصبح الحصول على الخدمة مرتبطًا بحدة الصوت أو تهديد الشكوى، فإن ذلك يدفع البعض إلى السلوك العدواني، وإلى استخدام الضغط النفسي أو الاجتماعي للحصول على طلبات لا تُعد حقًا مشروعًا، مثل الإجازات المرضية أو طلب عمليات جراحية أو فحوصات باهظة. هذه التصرفات لا تؤذي الطبيب فحسب، بل تضر المريض نفسه حين يُعطى ما لا يحتاج، وتؤخر الرعاية عن غيره ممن هم في أمسّ الحاجة.
في المقابل، تقف إدارات الموارد البشرية – للأسف – أحيانًا في موقع المتفرج، أو المنفّذ الإداري لردود الفعل، دون أن تكون جزءًا من حل المشكلة. فغياب آليات فرز منصفة للشكاوى، وغياب الدعم المؤسسي لحماية الممارس الصحي من البلاغات الكيدية أو غير المستندة، يجعل الطبيب في حالة استعداد دائم للدفاع، لا للعلاج.
ولذلك، نحتاج إلى إعادة تنظيم آلية التعامل مع الشكاوى بما يحمي المريض دون أن يضع الطبيب في قفص الاتهام مع كل تذمر أو سوء فهم. من ذلك، إنشاء لجنة مستقلة متخصصة لمراجعة الشكاوى قبل إحالتها للطبيب، بحيث يُفرز الجاد منها من العاطفي، وتُحلل الأسباب الجذرية لكل شكوى ضمن سياقها المؤسسي، لا الشخصي. كما نحتاج إلى تعزيز وعي المجتمع بأن الطب ليس «خدمة عند الطلب»، بل علم وتقدير سريري يخضع لضوابط، وليس لرغبات آنية.
الطبيب ليس خصم المريض، بل شريكه الأول في رحلة الشفاء.
[email protected]
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة صحيفة اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من صحيفة اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.