هذه المرحلة ليست مجرد تغيير في الروتين اليومي، بل هي اختبار نفسي عميق وتحدٍ كبير.. يكشف من خلالها عن طباع الفرد وقدرته على التكيف مع التغيير الناتجة عن التقاعد؛ فالتقاعد بما يحمله من حرية وفراغ زمني يضع الإنسان وجهاً لوجه مع نفسه حيث تبرز مكنوناته النفسية ومدى توازنه الداخلي.
وفي هذه المرحلة تتجلى طباعه الحقيقية وتظهر قيمته التي بناها على مر السنين.. فمنهم من يجد في التقاعد ملاذاً للراحة النفسية فيتجه إلى الذكر والعبادة؛ حيث تمنح روحه السكينة ويعزز شعوره بالهدف والرضا الداخلي. هؤلاء غالباً ما يمتلكون توازناً نفسياً يسمح لهم بشغل الفراغ الذي خلّفه العمل بأنشطة تعكس قيمهم العميقة.
وهناك من يستثمر هذه المرحلة في إطلاق طاقاته الإبداعية والمعرفية فيبدأ مشروعاً خاصاً إما اقتصادياً أو امتداداً لتخصصه قبل التقاعد.. وهناك من ينغمس في هوايات طالما أجّلها لانشغاله بمرحلة العمل ولعدم وجود الوقت الكافي لممارستها.. هذه الفئة تمتلك مرونة نفسية تمكنها من تحويل التقاعد إلى فرصة للنمو الذاتي، حيث يجدون في الحرية المستقبلية متنفساً لتحقيق الذات واستعادة شغفهم الداخلي ومشاركة المجتمع بما يتوافق مع استثماراتهم الشخصية السابقة، فيكونون مرجعاً ذا قيمة كبيرة وعالية للجميع.
لكن وللأسف.. هناك فئة أخرى يكشف التقاعد عن هشاشة نفسية واضحة لديهم كانت تختبئ خلف انشغالهم السابق.. هذه الفئة لم يتمكنوا من بناء هوية داخلية متماسكة أو استقرار اجتماعي خلال سنوات عمرهم فيجدون أنفسهم عاجزين عن التكيف مع غياب الهيكلية التنظيمية التي كان يوفرها العمل لهم، فالتقاعد بالنسبة لهم ليس فرصة للتحرر بل أزمة وجودية تُفاقم شعورهم بالفراغ والقلق والخوف.. فبدلاً من استثمار هذه المرحلة بشكل إيجابي ينحدرون إلى سلوكيات عدوانية أو مدمرة كالإساءة للآخرين بالقول أو الفعل أو التعدي على حقوق الغير إثر تراكم السلبيات في عقولهم. هذه السلوكيات قد تنبع من شعور داخلي بالإحباط أو فقدان الهوية التي كانت مرتبطة بالعمل أو حتى تربية أسرية غير متزنة، مما يدفعهم إلى البحث عن تعويض زائف من خلال إيذاء الآخرين أو فرض السيطرة عليهم.
هذه السلوكيات تثبت مدى قدرة الفرد على تحقيق التوازن الذاتي والتكيف مع التغيرات الحياتية، فالأفراد الذين يمتلكون وعياً ذاتياً مرتفعاً وقدرة على إدارة مشاعرهم غالباً ما يرون التقاعد مرحلة للتجديد والنمو. أما أولئك الذين يعانون من ضعف في الهوية الذاتية أو نقص في مهارات التكيف، فقد يواجهون التقاعد كتهديد يُحفّز دفاعاتهم النفسية السلبية مثل العدوانية أو الانتقام. هذا الاختلاف يكشف عن أهمية الإعداد النفسي للتقاعد من خلال تعزيز الوعي الذاتي وتطوير مهارات التكيف وتنمية المهارات الاجتماعية والعلاقات الشخصية مع بناء هوية لا تعتمد فقط على العمل أو المنصب.
وأخيراً.. التقاعد يُعدّ من التحولات الحياتية الكبرى التي تُثير استجابات نفسية متنوعة بناءً على شخصية الفرد وخبراته السابقة منذ تربيته حتى دراسته نهاية بعمله.
ووفقاً لنظريات علم النفس مثل نظرية إريك إريكسون للتطور النفسي.. فإن مرحلة التقاعد تقع ضمن مرحلة (النضج)، حيث يواجه الفرد تحدي تحقيق (الاكتمال الذاتي) مقابل (اليأس).
وهنا تبرز أهمية التدخلات النفسية مثل الإرشاد النفسي أو برامج الإعداد للتقاعد من خلال جمعيات أو مؤسسات تابعة لمؤسساتهم الوظيفية، التي يمكن أن تساعد الأفراد على التكيف مع هذه المرحلة وتجنب الانزلاق إلى سلوكيات مدمرة.
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.