بعد فيلمها المرشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم Past Lives، يمكن تشبيه الفيلم التالي للمخرجة سيلين سونغ بحصان طروادة. تبدو حبكته من بعيد كأنها تنتمي إلى نوع الكوميديا الرومانسية المرِحة وغالباً غير الجادة التي كانت تملأ صالات السينما وأرفف متاجر الفيديو من مطلع الألفية، والتي تدور حول امرأة محترفة عزباء باختيارها تتحدى مفاهيم الحب غير المتوقعة. إلا أن سونغ تتلاعب بهذه القوالب المألوفة والصور النمطية المتوقعة لنجوم مثل داكوتا جونسون وكريس إيفانز وبيدرو باسكال، لتفاجئ جمهورها بأحداث غير متوقعة. المزيد عن هذا الموضوعالعرض الترويجي الثالث لفيلم Materialists حيث تكمن تحت هذا السطح الجذاب مواضيع ثقيلة عن الوحدة وازدراء الذات والمزيد. تلعب جونسون وإيفانز وباسكال أدوار أشخاص يجدون طرقاً غير مريحة لمواجهة وتجاوز أكثر ميولهم سوداوية في عالم يهيمن عليه الكومبيوتر وخدمات المواعدة باهظة الثمن والتوقعات المالية المرتبطة بالمواعدة في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر. والنتيجة فيلم حاد ومريح في آنٍ واحد: مثلث حب يبدأ بشكل متحفظ وجدي، ثم يصبح أعمق تدريجياً. يبدأ الفيلم بطريقة غير متوقعة إطلاقاً، بمشهد مشبع بالعاطفة في عصور ما قبل التاريخ لزوجين من سكان الكهوف، والذي يُلمّح إلى الوعد الشاعري الذي يحمله الفيلم. يتناقض خاتم الخطوبة الذي يتبادلاه والمصنوع من زهرة بيضاء نقيّة فوراً مع الحُلي اللامعة في شقة خبيرة العلاقات لوسي ماكارّو (جونسون) العصرية في مانهاتن. ووفقاً لطبيعة شخصية لوسي: تتحوّل العاطفة إلى مادة. وأثناء توجهها إلى المكتب توزع لوسي بطاقات عمل فاخرة على كل رجل أعزب يلفت انتباهها، أو من تلفت انتباهه، لتُحوّل نظرات الإعجاب إلى فرصة عمل. في المكتب، تقوم هي وزملاؤها بإطلاع بعضهم البعض حول تطورات زبائنهم العُزّاب (أو الذين كانوا عُزّاباً)، الذين يُشار إليهم بأسماء مثل “شارلوت ب”، “بيتر سي”، “مارك پ”، وما إلى ذلك. وهذا يعكس درجة إخفاء الهوية التي توفّرها خدماتهم، رغم أن الأمر يتضح حين تجلس لوسي مع زبونة تُعد أيضاً صديقة، وهي المتفائلة ولكن الدائمة الوحدة "صوفي إل" (زوي وينترز)، بأن الناس ليسوا أكثر من نقاط بيانات بالنسبة لها. "طوله 180سم". "دخل من ستة أرقام سنوياً". "جسم رياضي". "يعاني من الصلع". تتحدث عن الزواج والرومانسية كأنها صفقات تُعزز من قيمة الأشخاص وتُضيف إلى أمانهم، كما لو أنها مزيج بين تطبيق مواعدة ومحفظة استثمارية في هيئة بشرية. لكن عندما تحضر لوسي حفل زفاف كانت قد ساعدت في تحقيقه، تتعرض تلك الواجهة المهنية الصلبة للاختبار، أولاً عبر شقيق العريس ووصيفه، الطبيب الوسيم هاري (باسكال)، ثم من خلال أحد النُدُل العاملين في الحفل، الممثل المفلس وحبيبها السابق جون (إيفانز). نرى في هذا المثلث العاطفي الغريب أداءات مؤثرة على نحو غير متوقع. حيث تستغل سونغ أداء جونسون البارد المعتاد بأقصى فاعلية: كجدار هش تظهر من خلاله بوادر الحذر والأنانية. تُلمّح لقطات فلاش باك لعلاقتها المتقلبة مع جون حين كانا يحاولان معاً أن يصبحا نجمَي مسرح برودواي وسط الفقر، إلى الدوافع السطحية التي جعلتها تتركه منذ سنوات على أمل حياة أكثر رفاهية. أثر عليه الانفصال أيضاً بعمق، مما يتيح لإيفانز فرصة لعب دور بطل في فيلم كوميديا رومانسية خفتت جاذبيته تحت وطأة إرهاق السعي وراء مهنة التمثيل. هذا يُضفي ثِقَلاً على تصريحاته الرومانسية الحالمة، ويمنعها من التحليق بعيداً إلى عالم العبارات المُستهلكة من نوع "أنت تُكملني". يضفي بيدرو باسكال في دور "هاري"، وهو البديل الجديد المتأنق واللطيف في حياة لوسي، جاذبية تُضفي على شخصيته هالة من الغموض تعمل بفعالية على عدة مستويات. هو متحفظ تماماً مثل لوسي، ومادّيّ مثلها (تماماً كما يوحي العنوان الذي يعني "الماديون"!)، لكن يوجد بينهما تناغم رومانسي. تنجذب لوسي فوراً إلى ما يُعدّ في جوهره عروض عمل مقنّعة في هيئة مواعيد غرامية فاخرة وليالٍ تقضيها في شقته الباذخة في تريبيكا التي تُقدَّر بثمن مرتفع، والتي يجتمعان فيها ونرى عيناها تتأملان بإعجاب السقوف العالية، والتي تتناقض بشكل صارخ مع شقة جون المتهالكة ذات الثلاث غرف التي يتشاركها مع زملاء سكن مزعجين. تريد لوسي المزيد، والمزيد، والمزيد، ولا ينتقدها الفيلم على ذلك. تفهم سونغ تماماً جاذبية الرفاهية والهروب الكلاسيكي الذي تقدمه السينما من خلال مظاهر الترف. لا تتعلق المعضلة التي تواجه لوسي لاحقاً باختيار حياة الرفاهية مع هاري مقابل حياة الكفاح مع جون، بل بما يمثّله كل رجل لها. يبدو هاري شريكاً مثالياً من الناحية النظرية. علاقتها بجون كانت مضطربة في الماضي. لكن سرعان ما تتحول المسألة إلى سؤال أعمق: من منهما يعرفها حقاً؟ ومن منهما على استعداد لمساعدتها في رؤية نفسها بوضوح بعدما عزلت قلبها عن احتمالية الوقوع في الحب؟ تتناول سونغ هذين المسارين ببراعة سينمائية حقيقية. سواء كانا يتحادثان أو يتشاركان الصمت أثناء التدخين، فإن المسافة بين لوسي وكل من الرجلين تبدو دائماً وكأنها تنبض بالكهرباء، وإن كان كلٌ على تردد مختلف. تتوهّج المواعيد الفخمة التي يصطحبها إليها هاري بدفء يشبه شعوراً بالراحة والقيمة. السرير الذي يجمع بينهما مغطى بملاءات من الساتان كما لو كانا في إعلان عطر راقٍ، مع خلفية موسيقية خفيفة من دانيال بيمبرتون. في المقابل، كل مشهد تقريباً مع جون الصلب والعفوي يتميز بكاميرا متجولة وأصوات نيويورك الصاخبة. وجوده يبدو مرتجلاً أكثر، مقارنةً بتماسك هاري المصقول بأسلوب كلاسيكي. لكن هذه الرؤى الرومانسية ليست وحدها ما يدفع لوسي للنظر داخل نفسها. فالفيلم يأخذ منعطفات قاتمة متمثلاً بالأداء المُتقَن للممثلة زوي وينترز في دور "صوفي"، صديقتها المتواضعة التي تُصبح محوراً لبعض المشاهد الصعبة، سواء حول صداقتها المصلحية مع لوسي، أو حول المخاطر الكامنة خلف المواعيد الغرامية العمياء التي تُدبَّر لها. ورغم أن هذه الحبكة الجانبية لا تمتزج دائماً بسلاسة مع مثلث الحب الرئيسي في Materialists، إلا أنه ينتهي بكونها مرآة ضرورية تُظهر أسوأ جوانب حياة لوسي المهنية ونهجها الخوارزمي في التعامل مع الآخرين. بشكل عام، يبدو فيلم Materialists عالقاً عمداً في في هذا الصراع الدائم، فهو يتعامل بصدر رحب حتى مع أكثر محاولات المواعدة تشاؤماً، من أشخاص يعتقدون أنهم قد لا يستحقون الحب، أو يشعرون أنهم بلغوا سناً نفد فيها الوقت. لذا يختارون الاكتفاء بالأرقام والخيارات المحددة بدلاً من العلاقات الحقيقية. لكن خلف كل زاوية تكمن احتمالات مرهقة بل وغير مريحة أحياناً تكتشفها لوسي بينما تمضي في أجواء أفلام الكوميديا الرومانسية التقليدية قبل أن تُنتزع فجأة من هذا المسار. تدفع سونغ بطلتها إلى مواجهة أسئلة صعبة عن قيمتها الإنسانية حين تكون أفعالها وأقوالها سبباً في آثار سلبية غير مباشرة على رحلات الآخرين العاطفية. والإجابات التي يقدمها الفيلم ليست بالبساطة التي قد نتوقعها، بل تمنحنا دراما رومانسية تخاطب القلب بعمق وتستمر في شدّه دون تراجع. - ترجمة ديما مهنا تستثمر سيلين سونغ شعبية نجومها داكوتا جونسون وكريس إيفانز وبيدرو باسكال للتلاعب بتوقعات أفلام الكوميديا الرومانسية، والنتيجة: مثلث حب غير متوقع يجمع بين متشائمين من مختلف الطبقات، غارقين في عالم تتحول فيه المواعدة إلى لعبة أرقام تجعلهم يتقوقعون تجاه الرومانسية. لكن عندما تلوح إمكانية الحب الحقيقي، تصوغه سونغ بألوان جذابة بشدة دون أن تتنكر للواقع القاسي حتى في أحلك بدائله.