بقلم: الدكتورة هويدا عزتالثلاثاء، 17 يونيو 2025 11:29 ص في ظل التغيرات السريعة التي تشهدها بيئات العمل الحديثة، لم تعد الكفاءة المهنية وحدها كافية لضمان النجاح داخل المؤسسات، بل أصبحت القيم الأخلاقية والقيادة المسؤولة من الدعائم الأساسية لبناء منظمات فعالة ومستدامة، ومع تصاعد حدة التنافس، بدأت الأدبيات الإدارية تتناول أنماطًا قيادية غير تقليدية، بعضها يُدرج ضمن ما يُعرف في علم النفس التنظيمي بـ"السمات القيادية المظلمة" (Dark Leadership Traits). ومن بين هذه الأنماط، تبرز الميكيافيلية التنظيمية بوصفها إحدى أكثرها تعقيدًا وتأثيرًا، إذ تعتمد على التلاعب والدهاء واستغلال النفوذ لخدمة الأهداف الشخصية، حتى ولو جاء ذلك على حساب مصلحة المؤسسة. ولا تظهر القيادة الميكيافيلية دائمًا في صورة تسلط مباشر، بل تتسلل إلى الممارسات اليومية من خلال أساليب خفية كالمراوغة، وإخفاء النوايا، والتأثير النفسي غير المباشر. وهي ممارسات قد تؤدي إلى الإضرار بالأداء العام ورفاه العاملين. يناقش هذا المقال ملامح هذا النمط القيادي، آثاره الممتدة، والتحديات التي يفرضها على المؤسسات الساعية لتحقيق التوازن بين الكفاءة والربحية من جهة، والعدالة وكرامة الموظفين من جهة أخرى. وتستمد القيادة الميكيافيلية اسمها من المفكر السياسي الإيطالي "نيكولو ميكيافيلي"، الذي ارتبط اسمه بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، وعندما تنتقل هذه الفلسفة إلى بيئة العمل، كما أوضحت أدبيات الإدارة، فإنها تصف نمطًا من القادة الذين يعتمدون على المراوغة والتلاعب والسيطرة النفسية لتحقيق مصالحهم الشخصية، مستخدمين أساليب غير أخلاقية مثل التضليل، استغلال العلاقات، إخفاء النوايا، وتوظيف النفوذ النفسي بشكل إستراتيجي، دون اعتبار للتأثيرات السلبية طويلة المدى على بيئة العمل. تشير دراسات عدة إلى السمات المشتركة للمدير الميكيافيلي، حيث يتمتع بقدرة عالية على قراءة البيئة السياسية داخل المؤسسة، بناء تحالفات خفية تخدم أهدافه، إخفاء المعلومات والتحكم في تدفقها، بالإضافة إلى إظهار صورة مزيفة من التعاون والانفتاح، كما يُظهر ميلًا قويًا نحو التنمر المؤسسي، الإقصاء المتعمد للكفاءات من الموظفين، وتفضيل الولاء على الأداء، خلق بيئة تنافسية سامة. لا تقتصر خطورة القيادة الميكيافيلية على بعض التجاوزات الفردية، بل تمتد لتترك آثارًا عميقة في نسيج بيئة العمل، فقد كشفت دراسة نُشرت في مجلة "Journal of Business Ethics " أن المديرين الذين يتبنون هذا النمط يركزون على تحقيق مصالحهم الشخصية السريعة، حتى لو كان ذلك على حساب القيم المؤسسية أو المبادئ الأخلاقية. ولمزيد من التأكيد، أظهر تحليل موسع نُشر عام 2023 في نفس المجلة تحت عنوان "هل القادة السيئون يؤثرون فعلًا على الموظفين؟"، أن أنماط القيادة السامة، وفي مقدمتها القيادة الميكيافيلية، ترتبط بشكل مباشر بانخفاض الولاء والرضا، وانتشار السلوكيات السلبية، مثل التراخي، والصمت، وعدم التعاون؛ والمقلق أن هذه الآثار لا تكون لحظية أو عابرة، بل تتراكم وتؤثر بمرور الوقت على الصحة النفسية للعاملين واستقرار المؤسسة ككل. تُعد القيادة الميكيافيلية خطرًا حقيقيًا على المؤسسات، لأنها تُضعف الروح الجماعية بين الموظفين وتُهمل القيم الأخلاقية، مما يؤثر بشكل سلبي على أداء المؤسسة وإنتاجيتها وسمعتها. ورغم هذه الآثار السلبية، فقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة جانبًا مختلفًا من هذا النوع من القيادة؛ إذ تشير دراسة نُشرت عام 2022 في مجلة "Personality and Individual Differences" بعنوان: "القادة المظلمون في ضوء الأزمات: عندما تلتقي الميكيافيلية مع بقاء المؤسسة"، إلى أن القائد الميكيافيلي قد يكون مفيدًا في بعض الظروف، مثل الأزمات أو البيئات التنافسية الشديدة، حيث يستطيع اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة، وتوضح الدراسة أن هذا النوع من القادة يعتمد على الواقعية الشديدة والدهاء، مما يجعله خيارًا مغريًا لبعض المديرين الذين يفتقرون إلى الحضور القوي أو الدعم المؤسسي، فيلجؤون إلى التلاعب وفرض السيطرة كوسيلة للبقاء في مواقعهم. ورغم أن هذا النمط قد يبدو ناجحًا في مواقف معينة، إلا أنه غالبًا ما يُنتج آثارًا مدمّرة على المدى الطويل؛ فبناء ثقافة تقوم على العدالة والثقة يبقى الخيار الأجدى لضمان النمو المستدام، وهذا ما كشفت عنه دراسة بعنوان "الماكيافيلية العاطفية: كيف يتفاعل القادة الميكيافيليون مع موظفيهم" أن هذا النوع من القادة يترك أثرًا نفسيًا ضاغطًا على الموظفين، يتمثل في شعور بالإرهاق والتوتر، وتراجع الرضا عن بيئة العمل، بل وارتفاع معدلات دوران العمل. لا يقتصر هذا النمط القيادي على صفحات التاريخ وشخصياته الجدلية كهتلر ونابليون، الذين برعوا في حشد الموارد لتحقيق مكاسب كبرى على حساب استقرار مجتمعاتهم. بل هو واقع يتجسد اليوم بقوة في عالم الأعمال؛ فتارةً نراه في قصة صعود وهبوط رئيس تنفيذي بنى إمبراطوريته على وعود زائفة وتلاعب بالحقائق، وتارةً أخرى في سلوك مدير يتقن "سياسات المكاتب"، فيُقصي الكفاءات ويبني تحالفاته على الولاء، ويستغل جهود فريقه وينسبها لنفسه. وفي كل الأحوال، يكون الثمن واحدًا: نجاح ظاهري سريع على حساب تدمير الثقة وتسميم ثقافة العمل، لينتهي الأمر حتمًا إلى إرث من الفشل المؤسسي وفريق عمل محطم، وبيئة عمل سامة. ورغم هذه الصورة القاتمة، لا يمكن تجاهل بعض التحليلات الحديثة التي تناولت القيادة الميكيافيلية من زاوية مختلفة، إذ أشارت إلى أن هذا النمط قد يُظهر فاعلية مؤقتة في بعض الشركات، خاصة في البيئات عالية التنافسية، حيث يُسهم في اتخاذ قرارات حاسمة وفرض سيطرة سريعة. ومع ذلك، فإن هذه المكاسب غالبًا ما تكون قصيرة الأجل، إذ تؤدي في الغالب إلى نشوء بيئة عمل سامة، تقوم على الخوف بدلًا من الثقة، وعلى المصالح الفردية بدلًا من الانتماء المؤسسي. أما عن الآثار التي يتركها هذا النمط القيادي، فقد كشفت الدراسات عن عواقب وخيمة على المستويين الفردي والمؤسسي. إذ تُفضي القيادة الميكيافيلية إلى بيئة عمل غير آمنة نفسيًا، يسودها الحذر والقلق والخوف من التقييم غير العادل أو الإقصاء، كما يتراجع فيها الانفتاح وتضعف روح التعاون، مما يؤثر سلبًا على الإبداع والعمل الجماعي؛ فالقائد الميكيافيلي يتعمد إخفاء نواياه، والتلاعب بالمعلومات والعلاقات، مما يدفع الموظفين إلى الانغلاق والانعزال التنظيمي. وأمام هذا الواقع المُعقّد، يمكن للموظفين بناء درعٍ واقٍ، من خلال تبني سلوكيات مهنية واعية، أهمها: بناء شبكة علاقات داعمة، والتركيز على الأداء المتميز، والحفاظ على حدود مهنية صارمة، وتجنب مشاركة المعلومات الشخصية التي قد تُستغل لاحقًا، وبرغم أن هذه الإجراءات لا تعالج جذور المشكلة، فإنها تظل ضرورية لحماية السلامة النفسية والاستقرار المهني في بيئة عمل تفتقر إلى الثقة. فالقيادة الميكيافيلية ليست مجرد سلوك فردي عابر، بل غالبًا ما تعكس خللًا أعمق في منظومات مؤسسية تضع القيم الأخلاقية جانبًا لصالح مكاسب آنية أو نتائج سطحية. ورغم ما قد يبدو من نجاحات مؤقتة يحققها هذا النمط، فإن الثمن يُدفع لاحقًا من استقرار فرق العمل، وجودة القرارات، وثقة الموظفين بالإدارة. لذلك، لا يكمن التحدي الحقيقي في مجرد التعرف على هذا النمط الخطير، بل في بناء بيئة عمل تمنع انتشاره منذ البداية، عبر ترسيخ ثقافة النزاهة، وتعزيز الوعي الأخلاقي في تقييم القيادات، والتأكيد على أن النجاح المستدام لا يُبنى على الخداع والمراوغة، بل على الشفافية، والعدالة، والاحترام المتبادل. فالقيادة الفعالة لا تُقاس فقط بما تحققه من نتائج، بل بالطريقة التي تُحقق بها هذه النتائج، وإذا كانت القيادة الميكيافيلية قد تُنتج نجاحًا مؤقتًا، فإنها في المقابل تُضعف الروح المعنوية، وتُهدر الثقة، وتحوّل بيئة العمل إلى ساحة صراع خفي. لذلك، يبقى الخيار الأمثل للمؤسسات هو الاستثمار في قيادة أخلاقية، تؤمن بأن النجاح الحقيقي يقوم على القيادة الأخلاقية... لا الميكيافيلية. في النهاية، القيادة ليست سلطة تُمارس، بل مسؤولية تُحترم... والمسار الأخلاقي هو ما يصنع الفارق الحقيقي بين قائد يُلهم وقائد يُرهق.