مارلين سلوم مضمون بعض الأفلام يكون أقوى من الدعاية التي تصاحب عرضها، وأقوى حتى من أسماء أبطالها، لذلك قد تجازف في دخول الصالات لمشاهدتها لكنك تفاجأ بالنتيجة وتخرج سعيداً باختيارك، متأثراً ومصفقاً لصناع الفيلم، وهو ما تواجهه مع فيلم «ليليان هول الرائعة» الذي قد يبدو من الأفلام العادية العابرة على الشاشة لملء فراغ، لكنه في الحقيقة من أجمل ما يمكنك مشاهدته في دور السينما حالياً، علماً أن أسماء أبطاله خصوصاً بطلته الأولى جيسيكا لانج لا تكفي لجذب جمهور كبير، ولو حلت مكانها نجمة بوزن ميريل ستريب مثلاً لتضاعف الإقبال على الفيلم حتى وإن كانت النتيجة واحدة، والنجاح حليف هذا العمل بفضل التناغم بين كل أركانه من تأليف وإخراج إلى تمثيل وتصوير، وليس فيلماً عابراً، بل يجمع بين الأداء المسرحي الصعب والأداء الأبسط والكثير من المشاعر التي تبعث في كل مشاهد قلقاً من احتمال الإصابة بالخرف دون أي إنذار مسبق. ليست كل الأفلام التي تناولت وتتناول مرض الخرف أو الزهايمر تشرح العلامات التي يمكننا من خلالها التأكد من أن الشخص الواقف أمامنا مصاب بإرهاق يؤدي إلى نسيان بعض الأشياء والتشتت الذهني، أم أنه مصاب بالخرف ومازال في مراحله الأولى التي نعجز عن التقاط إشاراتها سريعاً، ومنها حركة اليدين والرعشة من حين إلى حين ناهيك طبعاً عن نسيان بعض التفاصيل الصغيرة والأشياء العادية اليومية.. لذلك تعتبر أول نقطة تميز لفيلم «ليليان هول الرائعة» أن مؤلفته إليزابيث سيلديس أناكون ركزت على تلك المرحلة الدقيقة والأسئلة المهمة التي اختبر فيها الطبيب المعالج للبطلة نجمة برودواي ليليان هول حين أتته في زيارة اعتبرتها لمجرد الاطمئنان، وأن نسيانها لبعض الجمل أثناء إجراء بروفة لمسرحية لتشيخوف هو نتيجة إرهاق وقلة النوم، واكتشف الطبيب أنها تعاني من الخرف وهذه بداية إشاراته. وحي الخيال إليزابيث سيلديس أناكون كتبت نصاً جميلاً من وحي الخيال لا من الواقع، لا وجود لليليان هول لكنها ببراعتها في التأليف تجعل الجمهور يبحث بعد انتهاء الفيلم عن ليليان هول وهل كانت نجمة مسرح وماذا حصل لها؟ ليليان (جيسيكا لانج) ممثلة تقدم بها العمر ومازالت تملك نفس الهيبة والقدرة والكاريزما كلما وقفت على خشبة المسرح، يتمسك بها المخرج الشاب دايفيد (جيسي ويليامز)، ويعول عليها للقيام ببطولة مسرحية «بستان الكرز» لتشيخوف التي يتم الاستعداد لعرضها على خشبة برودواي، بينما المنتجة جاين (سيندي هوغان) تريد استبدالها لأنها كبرت في السن وزاد من إصرارها أن ليليان بدأت تنسى وتشعر بالتعب أثناء البروفة، فما كان من دايفيد إلا أن نصح صديقته النجمة بزيارة الطبيب للاطمئنان على صحتها. ليليان تعيش وحيدة في منزلها، تزورها مساعدتها المخلصة التي ترافقها منذ سنوات طويلة إيدث (كاثي بيتس)، في الصباح تزورها ابنتها مارغريت (ليلي راب) حاملة طبق «كيش» لتتناوله مع والدتها وهي سعيدة أنها أعدته بنفسها، لكن ردود ليليان وإيدث الباردة تحبط مارغريت وتعيدها أدراجها خائبة «لأن والدتها مشغولة ولديها مواعيد كثيرة مهمة».. أول خيط يبين لنا طبيعة العلاقة بين الأم وابنتها التي سنكتشف تفاصيل كثيرة ومهمة عنها لاحقاً. اختار المخرج مايكل كريستوفر أن يبدأ فيلمه بلقطات تبدو فيها ليليان هول كأنها تجري مقابلة تتحدث فيها عن حياتها، هي في مواجهة الكاميرا تتحدث إلى طرف لا نراه، وكأنه تسجيل لفيلم توثيقي عن ليليان تظهر فيه شخصيات بالأبيض والأسود بين الحين والآخر تقول معلومة عن هذه المرأة ثم تكمل القصة مسارها الطبيعي، تقول ليليان في بداية الفيلم «قضيت حياة أراقب الآخرين وحياة يراقبني الآخرون».. لاحقاً تقول «قضيت حياتي في مكان لصناعة الأوهام».. لكن كل ما نراه في الفيلم يعكس مدى عشقها وتعلقها بهذا المكان، ورفضها الاستسلام لواقع تقدمها بالعمر ومرضها الجديد، «سيدة المسرح الأمريكي الأولى» تتباهى بهذا اللقب وتكافح من أجل تقديم آخر عرض لها، لكن هل الإرادة تكفي للتغلب على أعراض الخرف والنسيان، وقد بدأت تتوه في الشوارع وتلاحقها التهيؤات حيث ترى زوجها المتوفى كارسون (مايكل روز)، يأتي بين الحين والآخر مبتسماً فتترك كل شيء وتمشي خلفه للحاق به. النجمة التي تستعد لتقديم عرض مسرحي ضخم، كيف ستتعامل مع وضعها الجديد وكيف ستواجه النسيان وكيف ستتصرف أمام الجمهور؟ هذه ليست القضية الوحيدة التي تطرحها المؤلفة وإن كانت الأبرز وهي العنوان العريض للفيلم، فهناك قضية أخرى موازية تطرحها الكاتبة، فبدلاً من أن تكون دراسة مثيرة للاهتمام حول مرض الخرف، يأتي نص إليزابيث سيلديس أناكون بمثابة عرض للاتهامات المتبادلة بين الأم وابنتها، التي تبدو أقدم حتى من مسرحية تشيخوف، حيث تسلط الضوء على معاناة ابنة فنانة مشهورة من غياب الأم الدائم وانشغالها عنها طوال الوقت وتفضيلها لعملها والمسرح على تربية ابنتها ومنحها جزءاً من وقتها، ليس الخرف هو الذي سيخطف ليليان من ابنتها مارغريت، فقد سبقه المسرح وولع أمها به إلى خطفها منها، الابنة لم تكن يوماً في حسابات أمها ولا أبيها المخرج، الثنائي ليليان وكارسون عاشا قصة حب جميلة وشكلا ثنائياً ناجحاً أيضاً في العمل، الممثلة والمخرج لم ينفصلا عن بعضهما البعض لا في العمل ولا في حياتهما الشخصية وكان ثالثهما المسرح، في حين أن ابنتهما الوحيدة مارغريت عانت فعلياً من الوحدة، حتى إيدث مساعدة ليليان هي أقرب من الابنة إلى أمها، وتعرف عنها كل أسرارها. هنا تقدم المؤلفة والمخرج مايكل كريستوفر أقوى وأجمل مشاهد الفيلم، النص والإخراج يمنحان جيسيكا لانج وليلي رابي مساحة كافية لتعيش كل منهما اللحظة بكل حواسهما ومشاعرهما فيتأثر الجمهور ويبكي لبكاء مارغريت ويتعاطف معها في عتابها لوالدتها، بل يشعر بجحود الأم التي اختارت أن تلعب كل الأدوار وأصعبها وأغفلت أهم دور في الحياة، دور الأم. صعوبات ومخاطر مشاهد الفنانتين لانج وبيتس، وهما امرأتان في السبعينيات من العمر، خصوصاً بعد اكتشاف إيدث مرض ليليان فتتشاجران في شقة ليليان حيث ترفض إيدث مرافقة النجمة في رحلتها مع المرض وعنادها وإصرارها على نكرانه، لأنها عاشت هذه المأساة حين أصيب والدها بالخرف، مشاهد ممتعة ومع وجود محترفي المسرح أمام الكاميرا وخلفها إذ إن المخرج مايكل كريستوفر هو ممثل وكاتب ومخرج حاصل على جائزة توني، لذلك تجد نفسك أمام فيلم يتناول أيضاً وبشكل جدي وعميق الصعوبات والمخاطر التي واجهها الأداء المسرحي والممثلون الذين يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الجمهور. جيسيكا لانج تستحق «أوسكار» عن دورها في هذا الفيلم، بسبب قدرتها العالية في الانتقال وفي ثوان بين الغياب والحضور، بين رؤيتها للواقع ورؤيتها للتهيؤات والأوهام، بين أداء شخصية نجمة «برودواي» المتألقة على خشبة المسرح والمرأة المصابة بمرض الخرف التي تحاول أن تتذكر كلمات تستكمل بها جملة على المسرح.. أداء يذكرنا بما قدمته جوليان مور عام 2014 في الفيلم الرائع «ستيل أليس»، وما قدمه المبدع أنطوني هوبكنز عام 2020 في «ذا فاذر» وإن كان دور هوبكنز هو الأصعب وأداؤه رفع السقف عالياً جداً وتجاوز كل ما شاهدناه في السينما عن مرضى الزهايمر. بيرس بروسنان نجم له جمهوره الكبير لكنه ارتضى أن يلعب دوراً ثانوياً كضيف شرف في هذا الفيلم، فهو جار ليليان الذي يدعمها ويحاول الترفيه عنها، وكأنه جزء من الخيال الذي تلجأ إليه كي تستريح وتطمئن، لا يظهر إلا ليلاً وعلى شرفة المنزل الملاصقة لشرفة منزل ليليان. [email protected]