-النتائج الرئيسية: أحدث طبقة من العصر الحجري القديم تقنية فريدة لصناعة الأدوات تنوع تكنولوجي إقليمي ارتباط مناخي اتساع المدى الزمني للاستيطان عيسى يوسف: الاكتشافات تُلهم الحاضر وتربطنا بالمستقبل أكدت دراسة بحثية نشرتها مجلة «العلوم الأثرية والأنثروبولوجية»، التابعة لمؤسسة النشر العلمية الرائدة «سبرينغر نيتشر»، أن البشر الأوائل عاشوا في «جبل الفاية» بالشارقة قبل 80 ألف عام. وتقدم الطبقة الأثرية التي تناولتها الدراسة للمرة الأولى في التاريخ قيمة مضافة من الأدلة العلمية الحديثة على التاريخ البشري الممتد إلى أكثر من 210 آلاف عام في هذه المنطقة. في الدراسة الحديثة والرائدة المنشورة هذا العام، كشفت بحوث علمية وأثرية أُجريت في موقع «جبل الفاية» بالشارقة عن أدلة جديدة على الاستيطان البشري تعود إلى نحو 80 ألف عام مضت، موفرة رؤية علمية أوضح حول الدور المحوري الذي لعبته المنطقة في الهجرات البشرية المبكرة. وتُعدّ الطبقة الأثرية التي ركزت عليها الدراسة من أهم الاكتشافات الحديثة، إذ تقدم للمرة الأولى قيمة مضافة من الأدلة العلمية التي تعزز السردية التاريخية للوجود البشري في «الفاية»، الممتد إلى أكثر من 210 آلاف عام. ويُشكل هذا الاكتشاف محطة فارقة في الجهود الجارية لترشيح ملف «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية» إلى قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو). ويعزز هذا الأهمية العالمية لـ«جبل الفاية» كموقع أثري رئيسي يُسلّط الضوء على بدايات انتشار الإنسان العاقل في أنحاء العالم. وتشدد نتائج الدراسة على أهمية «الفاية» كموقع محوري لفهم تحركات الإنسان العاقل المبكر، وتكيّفه، واستراتيجيات بقائه في بيئات صحراوية قاسية ومتغيرة في شبه الجزيرة العربية. وتؤكد النتائج أن المشهد الطبيعي في «الفاية» لم يكن مجرد ممر عبور ضمن رحلة الهجرات البشرية، بل كان موقعاً مهماً ومستداماً للسكن والاستقرار والتقدم البشري. وجاءت هذه الدراسة ثمرة لتعاون دولي بين هيئة الشارقة للآثار، وجامعات توبنغن وفرايبورغ (ألمانيا)، وأوكسفورد بروكس (المملكة المتحدة)، وبتمويل ودعم من مؤسسة البحوث الألمانية (DFG)، وأكاديمية هايدلبرغ للعلوم والعلوم الإنسانية في ألمانيا. أسرار الإنسان الأول تكمن أهمية الدراسة في توثيق النشاط البشري في «جبل الفاية» خلال نهاية مرحلة مناخية محورية تُعرف باسم «المرحلة الخامسة من النظائر البحرية». وهي فترة شهدت تغيرات مناخية كبرى في تاريخ شبه الجزيرة العربية. ويوضح د.كنوت بريتزكي، رئيس البعثة الأثرية الألمانية في الشارقة والباحث الرئيسي في الموقع، السياق قائلاً:«كانت هذه المرحلة أشبه بتأرجح مناخي واسع، فشهدت درجات الحرارة وهطل الأمطار تقلبات حادة، وتسببت الرياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي في فترات رطبة متقطعة، حوّلت الصحراء القاحلة إلى مزيج من البحيرات والمراعي الخصبة. هذه الظروف لم تكن مجرد استثناء بيئي، بل وفرت موطناً مستداماً للبشر الأوائل، وهو ما يتعارض مع الافتراضات السابقة التي اعتبرت المنطقة مجرد معبر للهجرات» المناخ وحده لا يروي القصة كاملة، فما يميّز سكان «الفاية» الأوائل حقاً الأدوات التي صنعوها والطريقة التي صنعوها بها. وعلى عكس المواقع الأخرى في شمال شبه الجزيرة العربية التي تضم أدوات حجرية ذات أشكال مثلثة أو بيضاوية، تكشف المكتشفات في «الفاية» عن بصمة تقنية مختلفة. هنا، استخدم البشر الأوائل تقنية متقدمة تُعرف بـ«الاختزال ثنائي الوجه»، وهي منهجية دقيقة تتضمن الطرق على نواة الحجر من جهتين لتشكيل نصال طويلة وحادة. يقول بريتزكي عن هذه التقنية: «لم تكن مجرد عملية نحت عشوائي. الاختزال ثنائي الوجه يتطلب رؤية واضحة، وتخطيطاً مسبقاً، ومهارة عالية. الأمر يشبه طاهياً يتقن تقطيع سمكة، كل ضربة محسوبة لتستثمر المادة إلى أقصى حد ممكن. كانت كل طرقة تضمن بقاء الحجر صالحاً لصناعة أدوات أخرى لاحقاً، ما يعكس وعياً بيئياً عميقاً وفهماً وظيفياً للمادة الخام». وأفرزت هذه الطريقة أدوات متعددة الاستخدامات: للصيد، وقطع اللحوم، وجمع النباتات، وصناعة أدوات أخرى ضرورية للبقاء. هذه التقنيات لم تكن مجرد أدوات حجرية، بل كانت امتداداً لتأقلم الإنسان مع بيئته، ودليلاً على هوية تقنية محلية متفردة. خطوة جديدة في قلب صحراء الشارقة، يحتفظ «جبل الفاية» بما يُعدّ أحد أطول السجلات الأثرية المتصلة في شبه الجزيرة العربية، أي تسلسل زمني يمتد من نحو 210 آلاف عام إلى 80 ألف عام، وهو أمر نادر في سجل البحوث الأثرية الإقليمية. وأمكن التحقق من هذا الامتداد الزمني باستخدام تقنية التأريخ الضوئي التي مكّنت الباحثين من تحديد أعمار طبقات الرواسب بدقة، مشيرة إلى أن مرور الإنسان من «الفاية» لم يكن عابراً، بل استوطنها أو عاد إليها مراراً عبر آلاف السنين، متأقلماً مع تحولات المناخ المتعاقبة. ويأتي هذا الاكتشاف في لحظة مفصلية، إذ تواصل الشارقة جهودها لتسجيل «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية»، الذي يشمل البيئة القديمة المحيطة بالموقع، على قائمة التراث العالمي. والدراسة الجديدة تعزز المكانة الفريدة التي يتمتع بها الموقع، باعتباره واحداً من أقدم الأماكن في الجزيرة العربية التي احتضنت الإنسان، ومكّنته من البقاء والتكيّف والازدهار. وقال عيسى يوسف، مدير عام هيئة الشارقة للآثار وأحد المساهمين الرئيسيين في البحث: «تشير نتائج الدراسة بشكل واضح إلى أن المرونة والإبداع والرغبة في التكيّف من أقوى سمات الطبيعة البشرية، و خصائص جعلتنا من أقدم الأنواع التي أتقنت فنون البقاء على كوكب الأرض. الأدوات المكتشفة تعكس عمق العلاقة بين الأرض والإنسان، ومع استمرارنا في دعم ملف الفاية إلى قائمة التراث العالمي، نشهد كيف يمكن لاكتشافات الماضي أن تُلهم الحاضر، وتربطنا ببعضنا في المستقبل». نموذج رائد لا تقف أهمية الدراسة عند حدودها العلمية، بل تتجاوزها إلى تقديم نموذج رائد لكيفية الجمع بين العلوم الدقيقة والسرد الأثري لتعزيز الوعي العام والأكاديمي بالماضي الإنساني المشترك. وبالإضافة إلى ثقلها العلمي، تُسلّط الدراسة الضوء على دور الشارقة المتقدم في ريادة البحث الأثري وحماية التراث الثقافي الإنساني. وتتوفر تفاصيل الدراسة على الرابط التالي: https://link.springer.com/article/10.1007/s12520-025-02164-z.