(ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله... وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعمُ) هناك ذنوب فكرية، ذنوب لم تصنعها حواسك، لكنها آثام صدرت عنك نتيجة تخطيط فاسد وفكرة خبيثة، ليس بالضرورة أن تكون تسببت فى إيذاء إنسان إيذاءً بدنيًا ظاهرًا، لكن تلك الذنوب ربما تكون رأيًا فاسدًا أو نصيحة مُغرضة أو ترجيحًا لكفة خالية، ربما يكون صمتًا فى غير موضعه أو كلمة تلقيها عن قصد لتشعل بها قلبًا أو تُحبط بها شعورًا، تلك الآثام الفكرية خطورتها فى أنها خفية إلى حد بعيد، ولأنها صادرة عن العقل فهى دائمًا ستجد حجتها القوية فى الدفاع عن نفسها، وهى عادة آثام تميز الأذكياء من البشر، فلن تجد آثامًا وذنوبًا فكرية كبرى للأغبياء، وربما يقع الأغبياء وعشاق اللحظة ومندفعو العواطف فى الذنوب والآثام الحسية أكثر. مشهد عجيب وهنا يتجلى مشهد عجيب ترى فيه كيف يتعامل أصحاب الذنوب الفكرية مع أصحاب الذنوب الحسية إذا اجتمعا فى ساحة واحدة؟ وتجد كيف يقع صاحب الفكر فى ذنب عظيم حينما يستغل معرفته بذنوب وآثام صاحب الذنب الحسى ويأخذ فى بث اليأس والغم والهم فى نفسه فى تعالٍ وغرور، وأصحاب الذنوب الفكرية هؤلاء هم أهل المكر السيئ، هكذا وصفوا بأنهم يمكرون بشرٍ وتخطيط وإتقان، وربما بتفرد وإبداع أيضًا، وصاحب المكر السيئ ممكور به أيضًا ودون أن يشعر، ليس فقط من الناحية البسيطة المباشرة التى يذكرها المثل المعتاد (من حفر حفرة لأخيه وقع فيها) ولكن هناك مستوى أعمق وأخطر وهو أن الماكر المخطط بلؤم وشر يزيد من عمق الحفرة داخل عقله ونفسه، وتلك الحفرة يزداد عمقها بزيادة إدراكه أنه صاحب عقل راجح يصنع الخير، يقدم النفع، ولا يُدرك أبدًا أنه يصنع الشر، بل كلما زاد مكره صار على يقين تام بأنه من أولئك الذين يحسنون صنعًا، وهنا تحدث المفارقة الدرامية القدرية العجيبة التى تجد فيها أن أصحاب الذنوب الحسية لديهم دائمًا شعور بالندم ورغبة فى التصحيح والإقلاع عنها بعد أن تُعلمه الأقدار بحوادثها العجيبة المؤلمة ويُعلمه الزمن والتجربة أشياء جديدة تدفعه دفعًا للرشد والرجوع، بينما الماكرون أصحاب الذنوب والآثام الفكرية لا يزيدهم مكرهم إلا مكرًا، ولا يزيدهم شرهم إلا شرًا، لأن الأمر هنا متعلق بالفكر والعقل والتدبر وهو ساحة الإعجاب والإنكار والجدل والنقاش وتراشق الآراء والتباهى، ساحة لا يسلم فيها إلا صاحب العقل الرشيد والقلب السليم معًا لأن إعجاب صاحب الرأى برأيه هو الإثم الأكثر ظهورًا وشيوعًا فى آثام الفكر، ولا يسلم منه إلا قليل لأن الانحياز إلى الفكرة والدفاع عنها والإعجاب بها هو جزء أصيل من إعجاب الإنسان بنفسه. ذنوب وحسنات وكما أن هناك ذنوبًا للفكر وآثامًا، هناك أيضًا حسنات عظمى وصدقات كبرى وعطايا ومنح يصنعها العقل والفكر، وأعظم تلك الحسنات هو الموضوعية وحسن التدبر، وليس هناك فى الوجود أشرف من سؤال صادق يطرحه العقل، ويدفع كل غالٍ وثمين من أجل الوصول إلى إجابة صادقة، ومن نعم الفكر السليم أيضًا الشك، فالشك بداية اليقين، وما شك عقل فى أمر جلل وقرر أن يسير فى طريق الشك هذا حتى يصل إلى يقين ما، إلا وكان عقلًا نابهًا يتحمل مشقة السير بين الظلمة والنور من أجل الوصول إلى معنى أو قيمة ما أو مفهوم يزيد حياته وعيًا حتى لو لم يقترن ذلك الوعى بالراحة، وغالبًا ما تكون العلاقة عكسية، فكلما زاد وعيك وفهمك زاد ألمك وشقاؤك كما وصف المتنبى (ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله... وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعمُ) لكنه ألم نافع وشقاء نبيل حتى ولو لم يصل فى النهاية إلى يقين، وهنا تتجلى نعمة الشك، فالعلم أوله شك يفضى إلى بحث وتجربة ليصل إلى نتيجة مؤقتة وهكذا، فالشك هو جنة العقل وجحيمه، نعمة العقل ونقمته، هداه وضلاله، لكنه فى النهاية هو طريقته المُثلى للتقدم فى طريق طويل شائك لم يكن يعرف بدايته ولن يعرف نهايته، ومن حسنات العقل أيضًا قدرته على الجمع والربط والتحليل، فهذه الخلايا المليونية التى أهداها الخالق لنا فى ذلك الرأس تجعل كل واحد منا يحمل قنديلًا فوق رقبته، هذا القنديل يُضيء بين السماء والأرض ويرسل أفكارًا تجعل العالم أكثر جمالًا ويُسرًا، والأفكار رغم أنها تخرج مزهوة معجبة بنفسها إلا أنها تملك القدرة العجيبة على التناغم والتكامل والاشتباك مع أفكار العقول الأخرى فى نسق وديناميكية لا تقل إعجازًا عن النسق الكونى، فيجتهد عقل ما فى الأفكار الخاصة بالفيزياء وما إن تخرج إلى الوجود حتى تستفيد بها ومنها أفكار أخرى فى علوم أخرى مثل علم الرياضيات وعلم الموسيقى، ويجتهد عقل فى أفكار فلسفية مجردة تستطيع أن تكمل علمًا آخر كان يبدو بعيدًا قبلها كل البُعد عن الفلسفة وكأن هناك عقلًا كبيرًا مركزيًا تخدم لديه كل العقول بأفكارها فيخطو الإنسان الذى ميزه الله بهذا العقل خطوات جبارة صنعتها الأفكار الحسنة والسيئة معًا، صنعتها آثام الفكر وحسناتها حتى يسر العقل بأفكاره سبل الراحة وسبل الدمار. الإنسان والعلم استطاع الإنسان بالفكر والعلم أن يداوى الأمراض العصية وأن يُطيل فى أعمار الناس وأن يجعلهم يتنقلون فى الهواء من بين أطراف الأرض الأربعة وأن يخترق السماوات، واستطاع أيضًا أن يخترع ويصنع أسلحة فتاكة قادرة على محو ملايين الأرواح فى لحظة، ليس تناقضًا لكنه عظمة حقيقية ومنحة لا تأتى إلا من إله قادر سبحانه، فالعقل وحده قادر على أن يجعلك تنجو فى هذه الحياة وقادر أيضًا أن يجعلك تكتشف الوجود ونفسك. حى بن يقظان هكذا استطاع ابن طفيل الأندلسى فى رائعته (حى بن يقظان) أن يُثبت تلك الفكرة وهى أن طفلًا صغيرًا فى جزيرة لا وجود لبشرى عليها يستطيع من خلال عقله أن يسأل ويبحث عن إجابة ويصل عبر الربط والتحليل والبحث والتجربة إلى إجابات يفهم من خلالها معانى كثيرة عن الموت والحواس، لقد علّم (حى بن يقظان) نفسه بنفسه وذلك لأن لديه مُرشدًا كبيرًا ومعلمًا عظيمًا هو العقل، ذلك الذى يجعل الإنسان حيًا ويقظان فى آن واحد، فلا حياة بدون وعى يسيرها، هكذا أثبت (ابن طفيل) أن العقل قادر أن يقود الإنسان إلى الخالق أيضًا، لقد بهر ذلك التصور الذى وضعه (ابن طفيل) فى قصته المستشرق الإنجليزى (إدوارد بوكوك) الذى درس اللغة العربية وقدم ترجمة لـ (حى بن يقظان) وجعلها بعنوان (الفيلسوف الذى علم نفسه) وأثارت تلك الترجمة ضجة كبرى، والترجمة فى حد ذاتها ثمرة من ثمار العقل، فحينما استطاعت العقول فى الشرق والغرب عبر الترجمة على فهم الأفكار وتبادلها حدثت نهضة كبرى، نهضة استثمر فيها الغرب أفكار الشرق وأنضجها، فالفكر ليس حِكرًا على جماعة أو جنس أو دين لكنه متاح للجميع ومن طبيعته التفاعل والانتشار، ولا فضل فيه لأعجمى على عربى، وكلما انفتحت العقول وطارت منها الأفكار دون قيد أو شرط حتى لو اختلطت فيها الأفكار الحسنة بالسيئة وتجاورت آثام الفكر مع حسناته ستكون النتيجة فى النهاية مزيدًا من التقدم والتطور ومزيدًا أيضًا من الخوف والخطر، وهكذا هو الحال الإنسان وأفكاره، يحمل بين كتفيه رأسًا إما أن يضيء وإما أن يحرق. * عن يوميات الأخبار..