للعام الثالث على التوالي، يتخلّف علي عكرش (49 عامًا)، فلاح بقرية سنتريس بمركز أبوكبير في محافظة الشرقية، عن زراعة أرضه قمحًا، معللا قراره بأنه لم يعد مرتبطًا بالعادات القديمة، ولكنها “الحسابات الاقتصادية”.
يتحدث عكرش لـ”البورصة” عن تكلفة إنتاج الفدان المرتفعة خلال العامين الماضيين، بدءًا من التقاوي والأسمدة وحتى السولار ومستلزمات الرّش، مضيفًا أن تكلفة تجهيز وزراعة الفدان الواحد تتراوح بين 18 و20 ألف جنيه، بينما لا يغطي سعر التوريد التكلفة.
حسب بيان رسمي اطلعت عليه “البورصة”، سعّر رئيس الوزراء توريد القمح لموسم 2025/ 2026 بـ2250 جنيهًا للأردب بدرجة نظافة 22.5، و2300 جنيه للأردب درجة نظافة 23، و2350 جنيهًا للأردب درجة نظافة 23.5.
وبلغت المساحة المزروعة قمحًا في 2015/ 2016 نحو 3.5 مليون فدان بأنحاء البلاد، بينما تقلصت المساحة إلى 3.3 مليون فدان تقريبًا بموسم 2020/ 2021، لتناهز 3.2 مليون فدان في 2024/ 2025، حسب وزارة الزراعة الأمريكية (USDA).
وذلك ما يدفع للتساؤل: لماذا تتقلص المساحة المزروعة بمرور السنوات رغم مشروعات التوسع الزراعي التي تتبناها الدولة؟.
الفلاح.. المبتدأ والمنتهى
قال مصطفى العزازي، فلاح من قرية دنديط بمركز ميت غمر في محافظة الدقهلية، إن سعر إردب القمح “غير مُجْزٍ” للمزارعين في ظل ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج الزراعي، مضيفًا أن تكلفة الزراعة باتت تتجاوز عائد البيع.
وأضاف في حديثه لـ”البورصة” أن تكلفة الحرث والسماد والسولار وتشغيل المعدات أصبحت أعلى من العائد النهائي، إضافة إلى أن أي إصابة مرَضِيّة أو موجة طقس غير مستقرة كفيلة بخسارة جزء كبير من الإنتاج.
أشار العزازي إلى أن أسعار مدخلات الإنتاج تفاقمت خلال العامين الأخيرين، إذ تجاوزت صفيحة السولار حاجز 300 جنيه، بينما أصبحت عبوة المبيد الواحدة بين 200 و300 جنيه، مشيرًا إلى أنها لم تتخطَ من قبل 100 جنيه، فضلًا عن زيادة تكلفة الجرارات والعمالة.
وذكر أن تلك الزيادات المتتالية تهدد قدرة المزارع على الاستمرار في زراعة القمح، مع ضعف العائد من التوريد للشّوِن الحكومية.
ووصف حسين أبوصدام، نقيب الفلاحين، إن اعتماد أسعار توريد جديدة للقمح لموسم 2025/2026 بـ”الخطوة الإيجابية”، مضيفًا أن ذلك يعكس حرص الدولة على دعم المحاصيل الاستراتيجية، كما صرّح.
أضاف أبوصدام لـ”البورصة”، أن تحديد الأسعار استند لدراسات ارتفاع تكاليف الإنتاج، مضيفًا أنها وُضعت بعناية لضمان عائد مناسب للمزارعين، ودعم خطط الدولة لتقليل الاعتماد على المحاصيل الأقل جدوى.

وأشار نقيب الفلاحين، إلى أن الإعلان المبكر عن أسعار التوريد يمنح المزارع فرصة لتقدير تكلفة زراعته واختيار المحصول الأنسب له قبل بدء الموسم، كيلا يحدث اعتراض على الأسعار لاحقًا.
وذلك يفتح الباب أمام سؤال: هل يستطيع الفلاح توفيق أوضاعه مع الأسعار التي أعلنتها الحكومة؟.
يوم الإثنين، الفاتح من ديسمبر الحالي، استطلعت “البورصة” آراء 58 فلاحًا من 3 محافظات بالدلتا، وهي الدقهلية والمنوفية والشرقية، كنموذج متنوع لشرائح صغار المزارعين، أثناء تواجدهم بمركز البحوث الزراعية لشراء تقاوٍ وحبوب، على مدار اليوم.
أظهرت نتائج الاستطلاع أن 70.6% من الفلاحين (41 مزارعًا) غير راضين عن سعر توريد القمح الحكومي المُعلن، لعدم تغطيته تكلفة الإنتاج، مشيرين إلى أن زراعة القمح باتت أقل ربحية مقارنة بالبرسيم والفول، إضافة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والتقاوي والعمالة التي تجعل القمح محصولًا عالي المخاطرة.
كما بيّن الاستطلاع أن 15.5% من الفلاحين (9 مزارعين) باتوا يزرعون القمح في حدود الاستهلاك المنزلي فقط دون التوريد للدولة أو البيع للتجار، بينما حافظ نحو 8.6% (5 مزارعين) على اعتباره محصولًا رئيسًا بدورة الزراعة، رغم اعتراضهم على التسعير.
في حين أشار 5% من المشاركين (3 مزارعين) إلى أن تراجع زراعة القمح لا يرتبط بالتسعير وحده، بل بمنظومة أوسع تشمل ندرة الأسمدة وغياب الإرشاد الزراعي ومشكلات النقل والتوريد بالشِّوَن.
وتكشف النتائج عن تقليص أغلب الفلاحين مساحات القمح لصالح محاصيل قد تحقق ربحية أعلى، بينما يتعامل آخرون مع القمح باعتباره محصول أمن غذائي منزلي، وذلك ما يشير إلى صحة تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية بأن مصر ستظل من أكبر مستوردي القمح خلال الموسمين المقبلين.
بينما أشارت البيانات إلى أن إجمالي الإنتاج المحلي من القمح بلغ نحو 9.2 مليون طن للموسم 2024/2025 بإنتاجية تبلغ نحو 2.9 طن للفدان، بينما ارتفعت الواردات لنحو 12.2 مليون طن في ذات الموسم.
وتوقعت وزارة الزراعة الأمريكية ثبات مساحة زراعة القمح في مصر، عند 3.2 مليون فدان لموسم 2025/2026، بإجمالي إنتاج محلي نحو 9.2 مليون طن ومتوسط إنتاجية نحو 2.9 طن للفدان، فيما قد يصل إجمالي الواردات إلى 12.7 مليون طن.
المهندس الزراعي عمر عزب، قال إن تكلفة زراعة القمح ارتفعت بنسب كبيرة للتقاوي والسماد وعمليات المكافحة، موضحًا أن إردب القمح يحتاج من 50 إلى 60 كيلوجرامًا من التقاوي، لافتًا إلى أن تكلفة 25 كيلوجرامًا فقط كانت بين 300 و400 جنيه العام الماضي، بينما تجاوزت العام الحالي حاجز 800 جنيه.
أضاف عزب لـ”البورصة”، أن تكلفة التقاوي ارتفعت بنحو 200%، في حين تضاعفت أسعار الأسمدة الأزوتية 3 مرات تقريبًا، بعدما تخطت جوال السماد حاجز 1100 جنيه.
وأشار إلى أن محصول القمح يواجه عددًا من الأمراض والآفات التي تُكبّد المزارعين خسائر كبيرة إذا لم تُعالج في الوقت المناسب، موضحًا أن الصدأ الأصفر والبرتقالي والبني وحشرة المن والأمراض الفطرية كالبياض الدقيقي، يمكن أن تتسبب في فقدان 25 إلى 50% من المحصول.
وذكر أن سعر إردب القمح للموسم الحالي غير كافية لتغطية ارتفاع التكاليف، إضافة إلى أن السعر الحالي يكاد يكون نفس سعر العام الماضي، بينما تضاعفت التكلفة تضاعفت تكلفة الإنتاج 300%، ما يجعل عائد المزارع غير مرضٍ.
يقول محمد منصور (38 عامًا)، مزارع من بني كبير، لـ”البورصة” إن محصولي البرسيم والفول، يحققان عائدًا أعلى بمخاطر أقل، فضلًا عن سهولة تسويقهما، مشيرًا إلى أن البرسيم على وجه الخصوص يعتبر محصولا نقديا أسبوعيا، نتيجة البيع المباشر للمربين، بينما يوفر الفول سعرًا ثابتًا عند جني المحصول.
وعلق عمر عزب بأن المزارعين عزموا في التحول نحو محاصيل البرسيم والفول، لأنهما أكثر ربحية من القمح، إذ إن البرسيم يعطي من 6 إلى 8 حشّات في البطن الواحدة، ويغطي احتياجات الماشية، ويمكن بيع الفائض.
وأشار إلى خطورة ذلك الاتجاه على المدى الطويل، مرجعًا ذلك إلى استهلاك البرسيم كميات مياه ضخمة، بعكس القمح الذي لا يحتاج إلى ري مستمر، مبينًا أن استمرار ذلك قد يلحق ضررًا بالمورد المائي للدولة.
أما عماد أبو علام (59 عامًا)، مزارع من الباجور في المنوفية، فيرى أن منظومة توريد القمح للدولة غير مستقرة، واصفًا إجراءات الفرز والاستلام بـ”المعقدة”، إضافة إلى تحمّل تكلفة النقل، وعدم قبول بعض الشِّوَن المحاصيل إلا بدرجات عالية من النظافة يصعب تحقيقها دون معدات إضافية.
مصر تستورد نصف عيشها
حسب وزارة الزراعة الأمريكية، سجّلت واردات مصر من القمح تفاوتًا ملحوظًا بين المورّدين الرئيسيين خلال المواسم الماضية، وظلّت روسيا المصدر الأكبر لمصر، إذ تم استيراد 8.3 مليون طن في 2024/2025 فقط، وفي المرتبة الثانية جاءت أوكرانيا، بنحو2.1 مليون طن في الموسم الماضي، بينما استوردت مصر من الاتحاد الأوروبي 1.8 مليون طن في 2024/2025.
وقال الدكتور حازم حسانين، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، إن استمرار تراجع المساحات المزروعة قمحًا سيؤدي إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد، ما يرفع تعرض مصر لتقلبات الأسعار العالمية ويضغط على ميزان المدفوعات، كما سيؤثر على الأمن الغذائي الوطني في ظل الأزمات الدولية المتكررة.
أضاف لـ”البورصة”، أن تراجع زراعة القمح ينعكس مباشرة على دخل الأسر الريفية، ويقلّص عمل سلاسل القيمة المرتبطة بالصناعة، من مطاحن ونقل وتخزين، إلى جانب تأثيره على توزيع الموارد المائية مع الاتجاه لمحاصيل تستهلك كميات مياه أكبر، متوقعًا أن يؤدي ذلك في النهاية إلى زيادة عبء الدعم على الموازنة أو ارتفاع فاتورة الاستيراد، ما سيضع الحكومة أمام خيارات مالية صعبة خلال السنوات المقبلة.
ودعا الخبير الاقتصادي إلى تبني آلية تسعير عادلة وشفافة تغطي التكلفة الحدّية وتضمن ربحًا مناسبًا للفلاح، مع توجيه الدعم مباشرة لصغار المزارعين بدلًا من تعميمه بغير فعالية، كما لفت إلى أهمية إطلاق نظام تأمين زراعي فعّال وتخفيض تكاليف المعاملات عبر تطوير الشون ومراكز التجميع.
كما أوصى بدعم الميكنة الجماعية وتحسين نظم الري لرفع إنتاجية الفدان، إلى جانب تبني سياسة مائية واضحة تمنع التوسع العشوائي في محاصيل مرهقة للموارد المائية.
وفي سياق جهود الدولة لرفع إنتاجية القمح، قال الدكتور صبحي عبد الدايم، رئيس قسم بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية، إن الحملة القومية للنهوض بمحصول القمح تكتسب أهمية خاصة لمواجهة تحدي التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة ونقص مياه الري.
وأضاف لـ”البورصة”، أن الاستراتيجية تعتمد أنشطة فنية للتوسع في زراعة الأصناف المعتمدة عالية المحصول والمقاومة للأمراض وفقاً للسياسة الصنفية، ونشر تقنية زراعة القمح على المصاطب، التي توفر أكثر من 20% من مياه الري.
وأشار إلى التوسع في زراعة قمح الديورم بمحافظتي بني سويف والمنيا، وتطبيق المكافحة المتكاملة لحشائش الزمير، إضافة إلى التوسع في زراعة القمح بمزارع الأسماك ونظام التحميل على المحاصيل الشتوية، ذاكرًا أن المركز يوفّر التقاوي المنتقاة عالية المحصول لجميع المشاريع القومية عبر منافذه.
لم يُوقف علي عكرش زراعة القمح تمامًا، ولكنه كما السنتين الماضيتين، خصّص قيراطين فقط لاستهلاكه المنزلي، في ظاهرة طرأت ولم تعد فردية، كما يصرح، معلقًا لـ”البورصة”: “البيت لازم يكون فيه شوالين غلّة”.
بقلم:
إبراهيم الهادي عيسى
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة بوابة المصريين في الكويت ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من بوابة المصريين في الكويت ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
