أما المؤسف حقاً فهو أن الفارسية وآدابها، على الرغم من كل ما سبق، لم تحظَ بالاهتمام الكافي من جانب الجامعات والكليات والمراكز العلمية العربية إلا لماماً، أي على عكس العصور الإسلامية الزاهية، حينما كان الخلفاء المسلمون يشجعون على دراستها وترجمة جواهر آدابها وعلومها إلى العربية.
وفي البلاد العربية، التي دشنت مراكز لتعليم الفارسية ضمن كليات جامعاتها، سرعان ما تمّ إغلاقها أو تقليصها بحجة قلة المقبلين على دراسة الفارسية كلغة أجنبية، وهو ما قد يُفسر بمحدودية مجال العثور على عمل مناسب للمتخصص فيها، ناهيك عن سبب آخر يتمثل في حالة التوتر في العلاقات بين العرب والفرس، منذ قيام ما يسمى بالثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979، التي أججت الخلافات بين الشعبين من منطلقات طائفية ومذهبية وأيديولوجية.
ومناسبة الحديث عن هذا الموضوع، هو مرور تسعة أعوام على رحيل الأديب والأكاديمي والإعلامي الأستاذ الدكتور أحمد خالد حامد البدلي (توفي بتاريخ 26 نوفمبر 2016)، الذي يعد قامة علمية ومعرفية كبيرة، وأول منْ تخصص أكاديمياً في اللغة الفارسية من أبناء المملكة العربية السعودية ونال شهادة الدكتوراه في آدابها، ودرّسها لطلبة جامعة الملك سعود في الرياض.
ولد البدلي في مكة المكرمة، ابناً لعائلة فقيرة بائسة سكنت الحجاز منذ عام 1882، من بعد نزوحها إلى مكة من بوركينافاسو هرباً من طغيان المستعمر الأوروبي، وطلباً للأمن والأمان بجوار الحرم الشريف، وهو ما يذكره صاحبنا بفخر ودون حرج من أصله أو سواد بشرته، بل ويذكر أيضاً أن أناساً من جماعته لا يزالون مقيمين في بوركينافاسو والسودان ويتواصل معهم.
كان ميلاده في عام 1935 بحي «الطندباوي»، وهو أحد أحياء مكة العشوائية البائسة التي كانت وقتذاك مكونة من العشش والأكواخ، وتكثر فيها الحرائق والضجيج والفوضى وشقاوة الصبية والأطفال. ويتذكر البدلي، في حواره مع بدر الغانمي المنشور في صحيفة «عكاظ» (18/7/2009)، أنه كان يلعب مختلف الألعاب الشعبية مع أقرانه، وهو طفل، في براحة «يسلم بافرج»، وكان رفاقه يسمونه «الكبش» ويسخرون من لونه، ويطالبونه بأداء حركات التيوس.
نشأ البدلي في كنف جده «سمبودودو» يتيماً، بعد أن فقد والده، الذي كان يعمل في ورشة بسوق المعلاة في سبك الأمهار وبيعها من خلال دكان شخص آخر. وصادف رحيل والده اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وتأزم الأوضاع المعيشية جراء انقطاع السفن والواردات، وتدهور الأعمال والمصالح. ويتذكر البدلي في هذا السياق أنه عمل، وهو صبي، في ورشة والده كمبرد أمهار ونافخ كير، وأنه، في زمن الحرب وصرف المواد التموينية من دقيق وسكر وخبز بالبطاقات، كان مكلفاً بإحضارها من مصادرها إلى بيت العائلة، وأن والدته توفيت بعد عام من رحيل والده، دون أن يخبره أهله بذلك إلا بعد أيام، فحزن كثيراً ووجد نفسه تائهاً، وقرر الانتقام من أهله بسرقة بطاقة التموين من جيب جده، لاستلام حصة العائلة من التموينات وبيعها في السوق. ولهذا هرب من بيت جده وظل لأيام طويلة متسكعاً في الأزقة، وينام في الجوامع ويذهب خلسة إلى بيت جده لرؤية شقيقاته الثلاث (سعاد وخديجة وأمينة)، إلى أن اصطاده جده وعاقبه بربطه إلى أصل شجرة تيم عتيقة في البيت وراح يوسعه ضرباً بجريد النخل.
هذا الطفل اليتيم المشاغب سوف يكبر، ويقرر جده الفقير غير المقتدر على مصاريفه ومصاريف شقيقاته إلحاقه بدار الأيتام بمكة كي يدرس المرحلة الابتدائية وكي يحميه من الصعلكة والانحراف. ويبدو أن البدلي وجد في دار الأيتام ما يسره من الطعام الطيب والملبس النظيف والمرقد المريح والأنشطة الرياضية المتنوعة، ما جعله يواصل دراسته بجد واجتهاد دون تذمر من نظام الدار الصارم لجهة الصحة والنظافة ومواعيد النوم والاستيقاظ وطاعة المدرسين، الذين كان أغلبهم من مجاوري الحرم من جاوة ومصر والهند والمغرب. فطلبة الدار كانوا وقتذاك موضع حسد وغبطة الكثيرين لما كان فيها من مزايا معيشية وترفيهية، على حد قوله.
وهكذا حصل صاحبنا على الشهادة الابتدائية في عام 1950، وأتبعها بالشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بمكة في عام 1953. وأخبرنا البدلي عن دراسته في هذا المعهد فقال، إنه بالتزامن كان مواظباً على حضور دروس الشيخ حسن المشاط في الحرم المكي، حيث درس على يديه ألفية ابن مالك وغيرها. كما أخبرنا أنه، وهو طالب في المعهد، عمل مذيعاً في الإذاعة السعودية، قائلاً: «أتذكر أنني كنت في السنة الثالثة ألقي محاضرة بعنوان «ثوان مع هنري ديكارت» في إحدى المسامرات، وكانت تلك المحاضرة الجريئة عن الفيلسوف الفرنسي سبباً في أن طلب مني المرحوم الشاعر طاهر عبدالرحمن زمخشري، أن التحق بالإذاعة السعودية في القلعة، فقبلت العرض شاكراً، وقد أحسست بشيء من الغرور الخفي، وما هي إلا أيام حتى طلبني المرحوم حامد دمنهوري المشرف على الإذاعة آنذاك في مكتبه لإجراء مقابلة شخصية. وبعد المقابلة أرسلني إلى المرحوم بكر بوقس لإجراء الامتحان اللازم لمعرفة مدى صلاحية صوتي للإلقاء الإذاعي، ومدى قدرتي على الاشتراك في البث المباشر الحي، وقد نجحت ولله الحمد في الامتحان وعينت مذيعاً وكان ذلك سنة 1374هـ (1953)».
أهله تخرجه من المعهد العلمي بتفوق، للحصول على بعثة دراسية إلى مصر على نفقة الدولة، حيث كان ترتيبه السادس على زملائه الطلبة، فالتحق في مصر بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، والتي تخرج منها في عام 1959، حاملاً درجة الليسانس بتقدير جيد جداً. ومما لا شك فيه أن إقامته ودراسته في مصر الخمسينات كان لهما تأثير كبير على وعيه الثقافي، حيث نجده يقول إنه استمتع واستفاد كثيراً من محاضرات يوم الأربعاء بكلية آداب القاهرة التي كان يلقيها الدكتور طه حسين أكثر من استمتاعه بحفلات السيدة أم كلثوم الشهرية، مضيفاً أنه يدين بالكثير للمربي محمد عبدالصمد فدا، الذي درسه في المعهد العلمي قبل سفره إلى القاهرة، لأنه هو الذي فتح عينيه على كنوز الأدب المصري وعمالقته، وشجعه على قراءة كتب مثل «حياتي» للدكتور أحمد أمين، و«الأيام» لطه حسين، و«حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، وأوصاه بمتابعة أعداد مجلة الرسالة المصرية التي كان يحررها أحمد حسن الزيات. وضرورة القراءة الحرة خارج الفصول الدراسية.
ومن جانب آخر، أخبرنا الرجل في حواره مع صحيفة «عكاظ» (المصدر السابق)، عن الفارق بين الطلبة السعوديين وزملائهم المصريين في آداب القاهرة، فقال ما مفاده، إنهم كطلبة سعوديين كانوا يشعرون بشيء من التفوق على زملائهم المصريين في ما يتعلق بالدراسات النحوية والبلاغية والدينية، بينما كان المصريون يتفوقون عليهم في الدراسات النقدية والاجتماعية والتاريخية، علاوة على الإنجليزية، التي لم يتعلموا منها سوى النزر اليسير في المرحلة الثانوية على يد معلم مصري، لذا فإنهم اضطروا لأخذ دروس خصوصية على يد أحد الأساتذة من العاملين في المعهد الثقافي البريطاني بالقاهرة.
عاد البدلي إلى وطنه مكللاً بشهادة ليسانس الآداب، فتمّ تعيينه في عام 1960 معيداً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود. وفي العام التالي أرسل في بعثة دراسية إلى لندن لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغة الفارسية وآدابها من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (ساواس Soas) التابعة لجامعة لندن. وعن أسباب تخصصه في اللغة الفارسية، يقول البدلي، إنه كان يسمعها على ألسنة الحجاج الإيرانيين، زمن عمله مطوفاً للحجيج بمكة، فيطرب لها، مضيفاً: «وجدت في لغتهم جرساً خاصاً في أذني لما تحتويه من كلمات عربية كثيرة، فأحببت اللغة الفارسية وتعلقت بها وتمنيت أن أتعلمها في يوم من الأيام، وعندما كبرت اكتشفت أن أقرب لغة إلى اللغة العربية في الأرض هي اللغة الفارسية؛ بسبب أن 90% من حملة الثقافة الإسلامية من الفرس. ولو كان لي من الأمر شيء فلن أطلب من الطالب السعودي أو العربي أن يدرس الفرنسية أو الألمانية، وإنما اللغة الفارسية؛ لأنها اللغة الأقرب للغة العربية».
حلّ البدلي في لندن برفقة مبتعث سعودي آخر هو زميله الدكتور منصور الحازمي، لكنه تركها بعد سنة دراسية كاملة، لم يفلح خلالها في دراسة كتاب «المقالات الأربعة» باللغة الفارسية. يقول البدلي، إن المشرفة عليه السيدة لامبتون، نصحته بالذهاب إلى إيران والالتحاق بجامعة طهران، إنْ كان راغباً فعلاً في التخصص في الفارسية، بدلاً من إضاعة وقته في لندن، كما فعلت هي. ولعل ما شجعه على تنفيذ نصيحة معلمته هو تعرضه لمواقف عنصرية من قبل بعض الإنجليز الذين كانوا يتجنبونه وينادونه بكلمة «نغرو Negro» بسبب سواد بشرته، ناهيك عن ترددهم في إسكانه بعقاراتهم، بحسب كلامه.
وهكذا قدر لصاحبنا أن يمضي أربع سنوات من عمره في إيران بدلاً من بريطانيا، عاش خلالها سعيداً ومندمجاً مع الإيرانيين، يصادقهم، ويزور مناطقهم السياحية، ويتعمق في عاداتهم، ويتعلم لغتهم وألفاظهم، ويتذوق أشعارهم وموسيقاهم، دون أن يخوض معهم في المسائل التي تفرق كالدين والسياسة. ومما قاله عن تجربته الإيرانية، التي انتهت بحصوله في عام 1966 على درجة الدكتوراه باللغة الفارسية عن أطروحة بعنوان «دور الشعر في الدعاية المذهبية في إيران من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري»، إنه انهمك في الهدف الذي جاء من أجله، وسابق الزمن لإكمال رسالته للدكتوراه، فلم يفكر في الاقتران بفتاة إيرانية، لكنه أقر بأن الإيرانيات من أجمل نساء الأرض، لدرجة أن الفاتحين من العرب المسلمين تزوجوا منهن، مستشهداً بقول الخليفة عمر بن الخطاب «إن في نساء العجم خلابة والمرأة فتنة». ويروي البدلي، أن الإيرانيين إلى الآن لا يصدقون أنه سعودي حينما يتحدث إليهم، ويعتبرونه واحداً من مواطني مناطقهم الساحلية الجنوبية المعروفين ببشرتهم الداكنة.
العودة
من طهران
بعد عودته من طهران، في عام 1967 تمّ تعيينه مدرساً للغة الفارسية وآدابها بجامعة الملك سعود، ثم راح يترقى أكاديمياً إلى أن بلغ درجة الأستاذية في عام 1979، ومن المناصب الإدارية التي تسنمها: رئيس قسم الإعلام بكلية الآداب/ جامعة الملك سعود وقت إنشائها عام 1972، رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة من 1973 ـ 1975، وكيل كلية الآداب من 1975ـ 1976، الرئيس العام للنشاط الرياضي بالجامعة، ومدير معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها من 1981 ـ 1984.
وخلال هذه الفترة، وتحديداً ما بين عامي 1969 و1970 تولى تحرير الصفحة الأدبية بجريدة الجزيرة، التي كانت تصدر وقتذاك أسبوعياً في الرياض. لكن الأهم أن الرجل استخدم تخصصه، الذي لم يسبقه فيه أحد من مواطنيه، في رفد المكتبة العربية بمؤلفات وترجمات لروائع الأدب الفارسي بهدف تجسير الهوة بين العرب والفرس ومحاولة ملامسة الذائقة العربية في تناوله مثلاً للترجمات العربية لرباعيات الخيام، التي أجزم بأن أفضلها هي ترجمة الشاعر البحريني إبراهيم العريض، تليها ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي.
من أعمال البدلي في مجال الترجمة من الفارسية إلى العربية: ترجمة كتاب «إيران في العهد القاجاري» (نشرت على حلقات في مجلة «المنهل» السعودية)، ترجمة قصة «البومة العمياء» للكاتب الإيراني الشهير صادق هدايت، ترجمة «رحلة ناصر خسرو القبادياني»، علاوة على قيامه بتأليف كتاب «دراسة بعض الترجمات العربية لرباعيات الخيام».
أجمع أصدقاؤه ومعارفه وكل من عمل معه أو زامله في سنوات دراسته على أن البدلي شخصية موسوعية وموضوعية، ودودة ونبيلة وصريحة وجريئة، ولا تجيد المراوغة والنفاق، علاوة على أنه محب للطرفة والقفشات، والسخرية حتى من نفسه. وحينما سئل ذات مرة عن سبب ميل كتاباته إلى السخرية، رد قائلاً: «هي محاولة للانتقام من نفسي ومن المجتمع، للمعاناة واليتم والفقر والمرارة التي عشتها في طفولتي»، مضيفاً، أن الأمر يرجع أيضاً إلى قراءاته في الكتب الطريفة مثل كتابي «المستطرف في كل فن مستظرف» و«لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء»، ومؤلفات الكتاب الهزليين من الفرس.
شخصية موسوعية وموضوعية
أخبار ذات صلة
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة عكاظ ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من عكاظ ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.