- لأكثر من نصف قرن من الزمان، ظل الدولار الأمريكي متربعاً على قمة الهرم المالي العالمي، كسلطان لا يُنازع، لكنه في الوقت ذاته يثير سخطاً دفيناً لدى أمم كثيرة تعتبر هذه السيطرة "امتيازاً مفرطاً" لا يستند إلى حق أصيل.
- لم يكن هذا الاستياء وليد اليوم، بل يرجع صداه إلى ستينيات القرن الماضي حين وصفت أصوات فرنسية مكانة الدولار بهذا الوصف الدقيق.
- تصاعدت التحذيرات عقب الأزمة المالية الطاحنة عام 2008 من بكين، وبلغت ذروتها في سخرية الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي تساءل بمرارة: "من ذا الذي نصب الدولار ملكاً على العملات بعد أن تهاوى معيار الذهب؟"؛ وكلها صيحات تتجدد مطالبةً بفك الارتباط بهذا القطب المالي الأوحد.
- ولكن تكمن المفارقة الأكثر دهشة في أن واشنطن نفسها لم تكن تسعى دوماً لاعتلاء هذا العرش القيادي؛ فبعد أن فكّ الرئيس ريتشارد نيكسون الارتباط بين الدولار والذهب عام 1971، راود بعض صناع القرار الأمريكيين حلم تقليص نفوذ العملة الخضراء، لما لمسوا فيها من ثقل اقتصادي وجيوسياسي.
- غير أن الأيام كشفت سريعًا أن الهيمنة النقدية قد تكون عبئاً يحمل في طياته نعماً جمة؛ فقد أصبح بإمكان أمريكا أن تطبع الدولار دون قيد أو شرط سوى إرادتها، فاتحاً لها الأبواب لتمويل اقتصادها ومد نفوذها العالمي بأبخس الأثمان.
"ملك الدولار": كيف تحولت العملة إلى سلاح سياسي؟
- منذ سبعينيات القرن الماضي، لم يعد الدولار مجرد وسيلة للتبادل التجاري، بل ارتقى ليصبح أداة فاعلة للهيمنة الجيوسياسية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- لقد أتاحت السيطرة المطلقة على شرايين النظام المالي العالمي لواشنطن القدرة على فرض عقوبات اقتصادية موجعة، تغنيها في أحيان كثيرة عن زحف الجيوش.
- هذا التحول الجذري في دور الدولار هو ما خاض غماره الكاتبان المقتدران بول بلوستين وإدوارد فيشمان في كتابيهما الصادرين حديثاً، "ملك الدولار" و"نقاط الاختناق".
- فبينما يغوص بلوستين في أعماق التاريخ الاقتصادي للعملة الخضراء محللاً أسباب رسوخ قوتها واستمرار سيادتها، يتناول فيشمان بأسلوب تفصيلي دقيق استخدام الدولار كأداة حرب اقتصادية، مسلطاً الضوء على كيفية تحول العقوبات المالية إلى استراتيجية مركزية في صلب السياسة الخارجية الأمريكية.
نحو عصر الحرب الاقتصادية
- يرى فيشمان، وهو الخبير الذي عمل سابقاً في وزارة الخارجية الأمريكية وباحث في جامعة كولومبيا، أن عالمنا اليوم يقف على أعتاب تحول تاريخي مفصلي؛ حيث لم تعد الحرب الاقتصادية مجرد استثناء عابر، بل غدت "الوضع الطبيعي الجديد" الذي نعيشه.
- ويقسم هذا العصر إلى أربع محطات رئيسية: فرض العقوبات على إيران، والرد المالي والاقتصادي على الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم، والمواجهة التكنولوجية المحتدمة مع الصين، وأخيراً وليس آخراً، حزمة العقوبات غير المسبوقة التي فرضت على روسيا في أعقاب غزو أوكرانيا في عام 2022.
- ويكشف فيشمان من وراء الكواليس عن آليات العمل الدقيقة التي تتبعها فرق العقوبات في وزارتي الخارجية والخزانة، حيث يعمل موظفون حكوميون على قدر عالٍ من المهنية والتفاني في سبيل صياغة إجراءات معقدة، من قبيل تحديد سقف سعري للنفط الروسي، بهدف تجفيف منابع عائدات موسكو دون إحداث فوضى في استقرار الأسواق العالمية.
قوة الدولار: هل هي نعمة أم نقمة؟
- على الرغم من النجاحات التي تبدو جلية على السطح، يظل سؤال جوهري يطرح نفسه بقوة: ما مدى فاعلية العقوبات كأداة حقيقية للتغيير السياسي؟
- فبالرغم من كل هذه الإجراءات القاسية، لا تزال روسيا ماضية في غمار حربها، وتواصل الصين تقدمها المذهل في مضمار الذكاء الاصطناعي، وتبقى أنظمة الحكم التي يتم استهدافها بالعقوبات صامدة في وجه العاصفة.
- وهنا يطرح فيشمان تساؤلاً محورياً: هل يعود فشل العقوبات إلى ضعف في تصميمها وتخطيطها، أم أنها ببساطة بلغت أقصى ما يمكن أن تحققه من نجاح؟
- أما بلوستين، فيبدو أكثر تفاؤلاً في رؤيته، ففي كتابه "ملك الدولار"، يذهب إلى أن الهيمنة النقدية الأمريكية، على الرغم مما قد تجلبه من أعباء كارتفاع قيمة الدولار الذي يؤثر سلباً على تنافسية المنتجات الأمريكية في الأسواق الدولية، لا تزال تستحق كل هذا العناء.
- ويصف القوى التي تدعم عرش الدولار بأنها "شبه محصنة"، مشيراً إلى أن البدائل المطروحة على الساحة، كاليورو أو العملات الرقمية، لا تزال تفتقر إلى المصداقية والركائز الصلبة اللازمة لخلافة الدولار على عرشه.
ولكن... هل يدوم الحال؟
- رغم الهيمنة المستمرة للدولار، فإن الحديث عن عالم "متعدد العملات" لم يعد مجرد فرضية أكاديمية؛ فالدول المتضررة من العقوبات، كروسيا، بدأت تسعى إلى إقامة أنظمة مالية بديلة خارج المنظومة التي يتحكم فيها الغرب.
- في الوقت نفسه، تُبدي قوى اقتصادية صاعدة، مثل الصين والهند والبرازيل، رغبة متزايدة في استخدام عملاتها الوطنية في التجارة البينية، ضمن ما يشبه التكتلات النقدية الإقليمية.
- ولا تقتصر محاولات فكّ الارتباط بالدولار على الحكومات فحسب، بل تمتد إلى القطاع الخاص، حيث تسعى الشركات متعددة الجنسيات إلى تنويع أصولها وتوظيف العملات الرقمية كوسيلة للتحوّط من التقلبات الجيوسياسية.
- كما بدأت بنوك مركزية حول العالم في تقليص احتياطاتها من الدولار تدريجيًا، وزيادة حيازاتها من الذهب أو اليوان الصيني، في إشارة واضحة إلى تراجع الثقة في "العملة الخضراء" كملاذ مطلق.
عالم ما بعد الدولار.. اختبار لقوة أمريكا وليس فقط لعملتها
- في النهاية، فإن هيمنة الدولار ليست مجرد مسألة فنية تتعلق بالسيولة أو احتياطات النقد الأجنبي؛ بل إنها انعكاس للثقة العالمية في النظام الأمريكي السياسي والمؤسسي؛ وحين تبدأ هذه الثقة في التآكل، فإن تراجع العملة سيكون عرضًا لأزمة أعمق.
- يحذر بلوستين بوضوح من أنه إذا فقد الدولار مكانته لأن أمريكا تخلّت عن أسس قوتها، فإن سقوطه لن يكون المشكلة الحقيقية، بل العرض الجانبي لانهيار أكبر.
- وما لا يقوله، لكن يلوح في ثنايا السرد، هو أن النظام العالمي الذي بُني على الدولار قد ينهار بنفس السرعة إذا لم يجد العالم بديلاً موثوقًا.
حتى ذلك الحين، يبقى الدولار هو الملك، ولكن... عرشه بدأ يهتز.
المصدر: فايننشال تايمز
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة ارقام ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من ارقام ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.